ج9. كتاب : السيرة النبوية لابن هشام-أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري
[ تَجْهِيزُ الرّسُولِ لِفَتْحِ مَكّةَ ]
وَأَمَرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجَهَازِ وَأَمَرَ أَهْلَهُ
أَنْ يُجَهّزُوهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا ، وَهِيَ تُحَرّكُ بَعْضَ جَهَازِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ أَأَمَرَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ تُجَهّزُوهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ فَتَجَهّزْ قَالَ فَأَيْنَ
تَرَيْنَهُ يُرِيدُ ؟ قَالَتْ ( لَا ) وَاَللّهِ مَا أَدْرِي . ثُمّ إنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْلَمَ النّاسَ أَنّهُ سَائِرٌ
إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْجِدّ وَالتّهَيّؤِ وَقَالَ اللّهُمّ خُذْ
الْعُيُونَ وَالْأَخْبَارَ عَنْ قُرَيْشٍ حَتّى نَبْغَتَهَا فِي بِلَادِهَا
فَتَجَهّزَ النّاسُ
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي تَحْرِيضِ النّاسِ ]
فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ النّاسَ
وَيَذْكُرُ مُصَابَ رِجَالِ خُزَاعَةَ : [ ص 398 ]
عَنَانِي وَلَمْ أَشْهَدْ بِبَطْحَاءِ مَكّةٍ ...
رِجَالُ بَنِي كَعْبٍ تُحَزّ رِقَابُهَا
بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ ...
وَقَتْلَى كَثِيرٌ لَمْ تُجَنّ ثِيَابُهَا
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَنَالَنّ نُصْرَتِي ...
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَخْزُهَا وَعُقَابُهَا
وَصَفْوَانُ عَوْدٌ حَنّ مِنْ شُفْرِ اسْتِهِ ...
فَهَذَا أَوَانُ الْحَرْبِ شُدّ عِصَابُهَا
فَلَا تَأْمَنَنّا يَا ابْنَ أُمّ مُجَالِدٍ ... إذَا
اُحْتُلِبَتْ صَرْفًا وَأَعْصَلَ نَابُهَا
ولاَ تَجْزَعُوا مِنّا فَإِنّ سُيُوفَنَا ... لَهَا
وَقْعَةٌ بِالْمَوْتِ يُفْتَحُ بَابُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُ حَسّانَ " بأيدي
رِجَالٍ لَمْ يَسُلّوا سُيُوفَهُمْ " يَعْنِي قُرَيْشًا ؛ وَابْنُ أُمّ
مُجَالِدٍ " يَعْنِي عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ .
[ كِتَابُ حَاطِبٍ إلَى قُرَيْشٍ وَعِلْمُ الرّسُولِ بِأَمْرِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ
عُلَمَائِنَا ، قَالُوا : لَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَسِيرَ إلَى مَكّةَ ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إلَى قُرَيْشٍ
يُخْبِرُهُمْ بِاَلّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ الْأَمْرِ فِي السّيْرِ إلَيْهِمْ ثُمّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً زَعَمَ مُحَمّدُ
بْنُ جَعْفَرٍ أَنّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ وَزَعَمَ لِي غَيْرُهُ أَنّهَا سَارَةُ
مَوْلَاةٌ . لِبَعْضِ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى
أَنْ تُبَلّغَهُ قُرَيْشًا ، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا ، ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ
قُرُونَهَا ، ثُمّ خَرَجَتْ بِهِ وَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ فَبَعَثَ عَلِيّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا . فَقَالَ
أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابِ
إلَى قُرَيْشٍ ، يُحَذّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ [ ص 399 ]
بَنِي أَبِي أَحْمَدَ . فَاسْتَنْزَلَاهَا . فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ
يَجِدَا شَيْئًا ، فَقَالَ لَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنّي أَحْلِفُ
بِاَللّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا
كَذَبْنَا ، وَلَتُخْرِجِنّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّك ، فَلَمّا رَأَتْ
الْجِدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا ،
فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا ، فَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَاطِبًا فَقَالَ يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا ؟
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا وَاَللّهِ إنّي لَمُؤْمِنٌ بِاَللّهِ
وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت ، وَلَكِنّي كُنْت أَمْرَأً لَيْسَ لِي فِي
الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ
وَأَهْلٌ فَصَانَعْتهمْ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَا رَسُولَ اللّهِ
دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّ الرّجُلَ قَدْ نَافَقَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا يُدْرِيك يَا عُمَرُ لَعَلّ اللّهَ
قَدْ اطّلَعَ إلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ { يَا أَيّهَا
الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ } إلَى قَوْلِهِ { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ
مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا
بِاللّهِ وَحْدَهُ } . . . إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
[ خُرُوجُ الرّسُولِ فِي رَمَضَانَ وَاسْتِخْلَافُهُ أَبَا رُهْمٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ ثُمّ مَضَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَفَرِهِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ
أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ حُصَيْنِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ خَلَفٍ الْغِفَارِيّ
وَخَرَجَ لِعَشْرٍ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ فَصَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَصَامَ النّاسُ مَعَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِالْكُدَيْدِ ،
بَيْنَ عُسْفَانَ وَأَمَجٍ أَفْطَرَ [ ص 400 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى
حَتّى نَزَلَ مَرّ الظّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
فَسَبّعَتْ سُلَيْمٌ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَلّفَتْ سُلَيْمٌ وَأَلّفَتْ
مُزَيْنَةُ . وَفِي كُلّ الْقَبَائِلِ عُدَدٌ وَإِسْلَامٌ وَأَوْعَبَ مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، فَلَمْ يَتَخَلّفْ
عَنْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَرّ الظّهْرَانِ ، وَقَدْ عُمّيَتْ الْأَخْبَارُ عَنْ قُرَيْشٍ فَلَمْ
يَأْتِهِمْ خَبَرٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا
يَدْرُونَ مَا هُوَ فَاعِلٌ وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيَالِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ
حَرْبٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَبُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ يَتَحَسّسُونَ
الْأَخْبَارَ وَيَنْظُرُونَ هَلْ يَجِدُونَ خَبَرًا أَوْ يَسْمَعُونَ بِهِ وَقَدْ
كَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَقِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ .
[ هِجْرَةُ الْعَبّاسِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَقِيَهُ بِالْجُحْفَةِ
مُهَاجِرًا بِعِيَالِهِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِك مُقِيمًا بِمَكّةَ عَلَى
سِقَايَتِهِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُ رَاضٍ فِيمَا
ذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ
.
[ إسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ وَعَبْدِ
اللّهِ بْنِ أُمَيّةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ
بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْضًا
بِنِيقِ الْعُقَاب ِ فِيمَا بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، فَالْتَمَسَا
الدّخُولَ عَلَيْهِ فَكَلّمَتْهُ أُمّ سَلَمَةَ فِيهِمَا ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ
اللّهِ ابْنُ عَمّك وَابْنُ عَمّتِك وَصِهْرُك ، قَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِهِمَا ،
أَمَا ابْنُ عَمّي فَهَتَكَ عِرْضِي ، وَأَمّا ابْنُ عَمّتِي وَصِهْرِي فَهُوَ
الّذِي قَالَ فِيّ بِمَكّةَ مَا قَالَ . قَالَ فَلَمّا خَرَجَ الْخَبَرُ
إلَيْهِمَا بِذَلِكَ وَمَعَ أَبِي سُفْيَان بُنَيّ لَهُ . فَقَالَ وَاَللّهِ
لَيَأْذَنَنّ لِي أَوْ لَآخُذَنّ بِيَدَيْ بُنَيّ هَذَا ، ثُمّ لَنَذْهَبَنّ فِي
الْأَرْضِ حَتّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا ، فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَقّ لَهُمَا ، ثُمّ أَذِنَ لَهُمَا ، فَدَخَلَا عَلَيْهِ
فَأَسْلَمَا [ ص 401 ]
[ شِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الِاعْتِذَارِ عَمّا كَانَ فِيهِ قَبْلَ
إسْلَامِهِ ]
وَأَنْشَدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ قَوْلَهُ
فِي إسْلَامِهِ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ عَمّا كَانَ مَضَى مِنْهُ فَقَالَ
لَعَمْرُك إنّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ
خَيْلُ اللّاتِ خَيْلَ مُحَمّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ...
فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مَعَ
اللّهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ
أَصُدّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمّدٍ ... وَأُدْعَى
( وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ ) مِنْ مُحَمّدِ
هُمْ مَا هُمْ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِهَوَاهُمْ ... وَإِنْ
كَانَ ذَا رَأْيٍ يُلَمْ وَيُفَنّدْ
أُرِيدُ لِأُرْضِيَهُمْ وَلَسْتُ بِلَائِطٍ ... مَعَ
الْقَوْمِ مَا لَمْ أُهْدَ فِي كُلّ مَقْعَدِ
فَقُلْ لِثَقِيفٍ لَا أُرِيدُ قِتَالَهَا ... وَقُلْ
لِثَقِيفِ تِلْكَ غَيْرِي أَوْعِدِي
فَمَا كُنْت فِي الْجَيْشِ الّذِي نَالَ عَامِرًا ...
وَمَا كَانَ عَنْ جَرّا لِسَانِي وَلَا يَدِي
قَبَائِلَ جَاءَتْ مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... نَزَائِعَ
جَاءَتْ مِنْ سِهَامٍ وَسُرْدَدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " وَدَلّنِي عَلَى
الْحَقّ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ
" . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّهُ حِينَ
أَنْشَدَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْلَهُ وَنَالَنِي مَعَ
اللّهِ مَنْ طَرّدْتُ كُلّ مُطَرّدِ
ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي صَدْرِهِ وَقَالَ أَنْتَ طَرّدْتَنِي كُلّ مُطَرّدٍ
[ قِصّةُ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى يَدِ الْعَبّاسِ ]
[ ص 402 ] فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ الظّهْرَانِ قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
فَقُلْت : وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ لَئِنْ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ عَنْوَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ إنّهُ
لَهَلَاكُ قُرَيْشٍ إلَى آخِرِ الدّهْرِ قَالَ فَجَلَسْت عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَيْضَاءِ فَخَرَجْتُ عَلَيْهَا . قَالَ
حَتّى جِئْت الْأَرَاكَ ، فَقُلْت لَعَلّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطّابَةِ أَوْ
صَاحِبَ لَبَنٍ أَوْ ذَا حَاجَةٍ يَأْتِي مَكّةَ ، فَيُخْبِرَهُمْ بِمَكَانِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَخْرُجُوا إلَيْهِ
فَيَسْتَأْمِنُوهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً . قَالَ فَوَاَللّهِ
إنّي لَأَسِيرُ عَلَيْهَا وَأَلْتَمِسُ مَا خَرَجْت لَهُ إذْ سَمِعْت كَلَامَ
أَبِي سُفْيَانَ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَأَبُو سُفْيَانَ
يَقُولُ مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ نِيرَانًا قَطّ وَلَا عَسْكَرًا ، قَالَ يَقُولُ
بُدَيْلِ هَذِهِ وَاَللّهِ خُزَاعَةُ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ قَالَ يَقُولُ أَبُو
سُفْيَانَ خُزَاعَةُ أَذَلّ وَأَقَلّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ نِيرَانَهَا
وَعَسْكَرَهَا . قَالَ فَعَرَفْت صَوْتَهُ . فَقُلْت : يَا أَبَا حَنْظَلَةَ
فَعَرَفَ صَوْتِي ، فَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ قَالَ مَالَك
؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، قَالَ قُلْت : وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ هَذَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ وَاصَبَاحَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ
. قَالَ فَمَا الْحِيلَةُ ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؟ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَئِنْ
ظَفِرَ بِك لَيَضْرِبَنّ عُنُقَك ، فَارْكَبْ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ حَتّى
آتِيَ بِك رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْتَأْمِنَهُ لَك ؛
قَالَ فَرَكِبَ خَلْفِي وَرَجَعَ صَاحِبَاهُ قَالَ فَجِئْت بِهِ كُلّمَا مَرَرْت
بِنَارِ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا : مَنْ هَذَا ؟ فَإِذَا رَأَوْا
بَغْلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا عَلَيْهَا ، قَالُوا
عَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ . حَتّى
مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ هَذَا
؟ وَقَامَ إلَيّ فَلَمّا رَأَى أَبَا سُفْيَانَ عَلَى عَجُزِ الدّابّةِ قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ عَدُوّ اللّهِ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَمْكَنَ مِنْك بِغَيْرِ
عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَرَكَضْت الْبَغْلَةَ فَسَبَقَتْهُ بِمَا تَسْبِقُ الدّابّةُ الْبَطِيئَةُ
الرّجُلَ الْبَطِيءَ . [ ص 403 ] قَالَ فَاقْتَحَمْت عَنْ الْبَغْلَةِ فَدَخَلْت
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ عَلَيْهِ عُمَرُ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا أَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَمْكَنَ اللّهُ مِنْهُ
بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا عَهْدٍ فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ قُلْت : يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ أَجَرْتُهُ ثُمّ جَلَسْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَأَخَذْت بِرَأْسِهِ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا يُنَاجِيهِ
اللّيْلَةَ دُونِي رَجُلٌ فَلَمّا أَكْثَرَ عُمَرُ فِي شَأْنِهِ قَالَ قُلْت :
مَهْلًا يَا عُمَرُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَتْ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ
مَا قُلْت هَذَا ، وَلَكِنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُ مِنْ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ
مَنَافٍ فَقَالَ مَهْلًا يَا عَبّاسُ فَوَاَللّهِ لَإِسْلَامُك يَوْمَ أَسْلَمْت
كَانَ أَحَبّ إلَيّ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، وَمَا بِي إلّا
أَنّي قَدْ عَرَفْت أَنّ إسْلَامَك كَانَ أَحَبّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ إسْلَامِ الْخَطّابِ لَوْ أَسْلَمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبْ بِهِ يَا عَبّاسُ إلَى رَحْلِك ، فَإِذَا
أَصْبَحْتَ فَأْتِنِي بِهِ قَالَ فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَحْلِي " فَبَاتَ
عِنْدِي ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدَوْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّهُ لَا
إلَهَ إلّا اللّهُ ؟ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك
وَأَوْصَلَك ، وَاَللّهِ لَقَدْ ظَنَنْت أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ إلَهٌ
غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى عَنّي شَيْئًا بَعْدُ قَالَ وَيْحَك يَا أَبَا سُفْيَانَ
أَلَمْ يَأْنِ لَك أَنْ تَعْلَمَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ " قَالَ بِأَبِي
أَنْتَ وَأُمّي ، مَا أَحْلَمَك وَأَكْرَمَك وَأَوْصَلَك أَمّا هَذِهِ وَاَللّهِ
فَإِنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا حَتّى الْآنَ شَيْئًا . فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ
وَيْحَك أَسْلِمْ وَاشْهَدْ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ
قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُك . قَالَ فَشَهِدَ شَهَادَةَ الْحَقّ فَأَسْلَمَ
قَالَ الْعَبّاسُ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبّ
هَذَا الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا قَالَ نَعَمْ مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي
سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْصَرِفَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَبّاسُ احْبِسْهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي عِنْدَ
خَطْمِ الْجَبَلِ حَتّى تَمُرّ بِهِ جُنُودُ اللّهِ فَيَرَاهَا . قَالَ فَخَرَجْتُ
حَتّى حَبَسْتُهُ بِمَضِيقِ الْوَادِي ، حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ أَحْبِسَهُ [ ص 404 ]
[ عَرْضُ جُيُوشِ الرّسُولِ أَمَامَ أَبِي سُفْيَانَ ]
قَالَ وَمَرّتْ الْقَبَائِلُ عَلَى رَايَاتِهَا ،
كُلّمَا مَرّتْ قَبِيلَةٌ قَالَ يَا عَبّاسُ مَنْ هَذِهِ ؟ فَأَقُولُ سُلَيْمٌ
فَيَقُول : مَالِي وَلِسُلَيْمٍ ثُمّ تَمُرّ الْقَبِيلَةُ فَيَقُولُ يَا عَبّاسُ
مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَأَقُول : مُزَيْنَةُ ، فَيَقُولُ مَالِي وَلِمُزَيْنَةَ حَتّى
نَفِدَتْ الْقَبَائِلُ مَا تَمُرّ بِهِ قَبِيلَةٌ إلّا يَسْأَلُنِي عَنْهَا ،
فَإِذَا أَخْبَرْته بِهِمْ قَالَ مَالِي وَلِبَنِي فُلَانٍ حَتّى مَرّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا قِيلَ لَهَا الْخَضْرَاءُ لِكَثْرَةِ الْحَدِيدِ
وَظُهُورِهِ فِيهَا . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ الْيَشْكُرِيّ :
ثُمّ حُجْرًا أَعْنِي ابْنَ أُمّ قَطَامٍ ... وَلَهُ
فَارِسِيّةٌ خَضْرَاءُ
يَعْنِي الْكَتِيبَةَ ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ :
لَمّا رَأَى بَدْرًا تَسِيلُ جِلَاهُهُ ... بِكَتِيبَةِ
خَضْرَاءَ مِنْ بَلْخَزْرَجِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ قَدْ كَتَبْنَاهَا
فِي أَشْعَارِ يَوْمِ بَدْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فِيهَا الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ
، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلّا الْحَدَقُ مِنْ الْحَدِيدِ
فَقَالَ سُبْحَانَ اللّهِ يَا عَبّاسُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ قُلْت : هَذَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ قَالَ مَا لِأَحَدِ بِهَؤُلَاءِ قِبَلٌ وَلَا طَاقَةٌ وَاَللّهِ
يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيك الْغَدَاةَ عَظِيمًا ،
قَالَ قُلْت : يَا أَبَا سُفْيَانَ
. إنّهَا النّبُوّةُ . قَالَ فَنَعَمْ إذَنْ .
[ رُجُوعُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى أَهْلِ مَكّةَ يُحَذّرُهُمْ ]
قَالَ قُلْت : النّجَاءَ إلَى قَوْمِك ، حَتّى إذَا
جَاءَهُمْ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَذَا مُحَمّدٌ قَدْ
جَاءَكُمْ فِيمَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ [ ص
405 ] فَقَامَتْ إلَيْهِ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، فَأَخَذَتْ بِشَارِبِهِ فَقَالَتْ
اُقْتُلُوا الْحَمِيتَ الدّسِمَ الْأَحْمَسَ قُبّحَ مِنْ طَلِيعَةِ قَوْمٍ قَالَ
وَيْلَكُمْ لَا تَغُرّنّكُمْ هَذِهِ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فَإِنّهُ قَدْ جَاءَكُمْ
مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ
قَالُوا : قَاتَلَك اللّهُ وَمَا تُغْنِي عَنّا دَارُك ، قَالَ وَمَنْ أَغْلَقَ
عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ فَتَفَرّقَ
النّاسُ إلَى دُورِهِمْ وَإِلَى الْمَسْجِدِ .
[ وُصُولُ النّبِيّ إلَى ذِي طُوَى ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا
انْتَهَى إلَى ذِي طُوًى وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُعْتَجِرًا بِشُقّةِ بُرْدٍ
حِبَرَةٍ حَمْرَاءَ ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَضَعَ
رَأْسَهُ تَوَاضُعًا لِلّهِ حِينَ رَأَى مَا أَكْرَمَهُ اللّهُ بِهِ مِنْ
الْفَتْحِ حَتّى إنّ عُثْنُونَهُ لَيَكَادُ يَمَسّ وَاسِطَةَ الرّحْلِ .
[ إسْلَامُ أَبِي قُحَافَةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّتِهِ أَسَمَاءَ
بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ لَمّا وَقَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِذِي طُوَى قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِابْنَةِ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ
أَيْ بُنَيّةُ اظْهَرِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ قَالَتْ وَقَدْ كُفّ بَصَرُهُ
قَالَتْ فَأَشْرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ أَيْ بُنَيّةُ مَاذَا تَرَيْنَ ؟ قَالَتْ
أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا ، قَالَ تِلْكَ الْخَيْلُ قَالَتْ وَأَرَى رَجُلًا
يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ ذَلِكَ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا ، قَالَ أَيْ بُنَيّةُ ذَلِكَ
الْوَازِعُ يَعْنِي الّذِي يَأْمُرُ الْخَيْلَ وَيَتَقَدّمُ إلَيْهَا ، ثُمّ
قَالَتْ قَدْ وَاَللّهِ انْتَشَرَ السّوَادُ قَالَتْ فَقَالَ قَدْ وَاَللّهِ إذَنْ
دُفِعَتْ الْخَيْلُ فَأَسْرِعِي بِي إلَى بَيْتِي ، فَانْحَطّتْ بِهِ وَتَلَقّاهُ
الْخَيْلُ [ ص 406 ] قَالَتْ وَفِي عُنُقِ الْجَارِيَةِ طَوْقٌ مِنْ وَرِقٍ
فَتَلَقّاهَا رَجُلٌ فَيَقْتَطِعُهُ مِنْ عُنُقِهَا . قَالَتْ فَلَمّا دَخَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ أَتَى
أَبُو بَكْرٍ بِأَبِيهِ يَقُودُهُ " فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ هَلّا تَرَكْت الشّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتّى أَكُونَ
أَنَا آتِيَهُ فِيهِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ أَحَقّ أَنْ
يَمْشِيَ إلَيْك مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إلَيْهِ أَنْتَ قَالَ ( قَالَتْ ) :
فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ مَسَحَ صَدْرَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ أَسْلِمْ ،
فَأَسْلَمَ قَالَتْ فَدَخَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَكَأَنّ رَأْسُهُ ثَغَامَةً
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيّرُوا هَذَا مِنْ
شَعَرِهِ ثُمّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ وَقَالَ أُنْشِدُ
اللّهَ وَالْإِسْلَامَ طَوْقَ أُخْتِي ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ قَالَتْ فَقَالَ
أَيْ أُخَيّةُ احْتَسِبِي طَوْقَك فَوَاَللّهِ إنّ الْأَمَانَةَ فِي النّاسِ الْيَوْمَ
لَقَلِيلٌ .
[ دُخُولُ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ مَكّةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ فَرّقَ
جَيْشَهُ مِنْ ذِي طُوَى ، أَمَرَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ
النّاسِ مِنْ كُدَى ، وَكَانَ الزّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَى وَأَمَرَ
سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِي بَعْضِ النّاسِ مِنْ كَدَاءٍ
[ تَخَوّفُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ سَعْدٍ
وَمَا أَمَرَ بِهِ الرّسُولُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّ سَعْدًا حِينَ وُجّهَ دَاخِلًا ، قَالَ الْيَوْمُ يَوْمُ
الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُسْتَحَلّ الْحُرْمَةُ فَسَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ اسْمَعْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، مَا نَأْمَنُ أَنْ
يَكُونَ لَهُ فِي قُرَيْشٍ صَوْلَةٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ
أَنْتَ الّذِي تَدْخُلُ بِهَا [ ص 407
]
[ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ فِي دُخُولِ مَكّةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ فِي حَدِيثِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَمَرَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَدَخَلَ مِنْ اللّيطِ ، أَسْفَلَ
مَكّةَ ، فِي بَعْضِ النّاسِ وَكَانَ خَالِدٌ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَى ، وَفِيهَا
أَسْلَمُ وَسُلَيْمٌ وَغِفَارٌ وَمُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَقَبَائِلُ مِنْ
قَبَائِلِ الْعَرَبِ . وَأَقْبَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ بِالصّفّ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ يَنْصَبّ لِمَكّةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
أَذَاخِرَ ، حَتّى نَزَلَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، وَضُرِبَتْ لَهُ هُنَالِكَ قُبّتُهُ .
[ تَعَرّضُ صَفْوَانَ فِي نَفَرٍ مَعَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ
وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَسُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو كَانُوا قَدْ جَمَعُوا
نَاسًا بِالْخَنْدَمَةِ لِيُقَاتِلُوا ، وَقَدْ كَانَ حِمَاسُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدٍ
، أَخُو بَنِي بَكْرٍ يُعِدّ سِلَاحًا قَبْلَ دُخُولِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُصْلِحُ مِنْهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ لِمَاذَا تُعِدّ
مَا أَرَى ؟ قَالَ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ
يَقُومُ لِمُحَمّدِ وَأَصْحَابِهِ شَيْءٌ قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ
أُخْدِمَك بَعْضَهُمْ ثُمّ قَالَ
إنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَا لِي عِلّهْ ... هَذَا
سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السّلّهْ ثُمّ شَهِدَ
الْخَنْدَمَةَ مَعَ صَفْوَانَ وَسُهَيْلٍ وَعِكْرِمَةَ ، فَلَمّا لَقِيَهُمْ
الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، نَاوَشُوهُمْ شَيْئًا
مِنْ قِتَالٍ فَقُتِلَ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ ، أَحَدُ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ
، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَمَ ، حَلِيفُ بَنِي مُنْقَذٍ
وَكَانَا فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فَشَذّا عَنْهُ فَسَلَكَا طَرِيقًا
غَيْرَ طَرِيقِهِ فَقُتِلَا جَمِيعًا ، قُتِلَ خُنَيْسُ [ ص 408 ] كُرْزِ بْنِ
جَابِرٍ ، فَجَعَلَهُ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ثُمّ قَاتَلَ عَنْهُ
حَتّى قُتِلَ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ مِنْ بَنِي فِهِرْ ... نَقِيّةُ
الْوَجْهِ نَقِيّةُ الصّدِرْ
لَأَضْرِبَنّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخِرْ قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَكَانَ خُنَيْسٌ يُكْنَى أَبَا صَخْرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خُنَيْسُ
بْنُ خَالِدٍ مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ بَكْرٍ قَالَا : وَأُصِيبَ مِنْ
جُهَيْنَةَ سَلَمَةُ بْنُ الْمَيْلَاءِ مِنْ خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَأُصِيبَ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ نَاسٌ قَرِيبٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَوْ ثَلَاثَةَ
عَشَرَ رَجُلًا ثُمّ انْهَزَمُوا ، فَخَرَجَ حِمَاسٌ مُنْهَزِمًا حَتّى دَخَلَ
بَيْتَهُ ثُمّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَغَلِقِي عَلَيّ بَابِي ، قَالَتْ فَأَيْنَ
مَا كُنْت تَقُولُ ؟ فَقَالَ
إنّكِ لَوْ شَهِدْت يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ ... إذْ فَرّ
صَفْوَانُ وَفَرّ عِكْرِمَهْ
وَأَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُوتَمَهْ ...
وَاسْتَقْبَلَتْهُمْ بِالسّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ ... ضَرْبًا فَلَا
يُسْمَعُ إلّا غَمْغَمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ ... لَمْ
تَنْطِقِي فِي اللّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
[ ص 409 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " كَالْمُوتَمَهْ " ، وَتُرْوَى
للرعاش الْهُذَلِيّ .
[ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ]
وَكَانَ شِعَارُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ وحُنَيْن ٍ وَالطّائِفِ ، شِعَارُ
الْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ الرّحْمَنِ وَشِعَارُ الْخَزْرَجِ : يَا بَنِي
عَبْدِ اللّهِ وَشِعَارُ الْأَوْسِ : يَا بَنِي عُبَيْدِ اللّهِ .
[عَهْدُ الرّسُولِ إلَى أُمَرَائِهِ وَأَمْرُهُ بِقَتْلِ
نَفَرٍ سَمّاهُمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَهِدَ إلَى أُمَرَائِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حِينَ
أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا مَكّةَ ، أَنْ لَا يُقَاتِلُوا إلّا مَنْ قَاتَلَهُمْ
إلّا أَنّهُ قَدْ عَهِدَ فِي نَفَرٍ سَمّاهُمْ أَمَرَ بِقَتْلِهِمْ وَإِنْ وُجِدُوا
تَحْتَ أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدٍ أَخُو بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ .
[ سَبَبُ أَمْرِ الرّسُولِ بِقَتْلِ سَعْدٍ وَشَفَاعَةُ
عُثْمَانَ فِيهِ ]
وَإِنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ لِأَنّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَحْيَ فَارْتَدّ مُشْرِكًا رَاجِعًا
إلَى قُرَيْشٍ ، فَفَرّ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، وَكَانَ أَخَاهُ لِلرّضَاعَةِ
فَغَيّبَهُ حَتّى أَتَى بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعْدَ أَنْ اطْمَأَنّ النّاسُ وَأَهْلُ مَكّةَ ، فَاسْتَأْمَنَ لَهُ فَزَعَمُوا
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَمَتَ طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ
نَعَمْ ؟ فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ عُثْمَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ لَقَدْ صَمَتّ لِيَقُومَ
إلَيْهِ بَعْضُكُمْ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ :
فَهَلّا أَوْمَأْت إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ إنّ النّبِيّ لَا يَقْتُلُ بِالْإِشَارَةِ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَوَلّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
بَعْضَ أَعْمَالِهِ ثُمّ وَلّاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بَعْدَ عُمَرَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ خَطَلٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ
غَالِبٍ إنّمَا أَمَرَ [ ص 410
] كَانَ مُسْلِمًا ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُصَدّقًا ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ
، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلَى لَهُ يَخْدُمُهُ وَكَانَ مُسْلِمًا ، فَنَزَلَ مَنْزِلًا
، وَأَمَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ لَهُ تَيْسًا ، فَيَصْنَعَ لَهُ طَعَامًا ؟
فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَلَمْ يَصْنَعْ لَهُ شَيْئًا ، فَعَدَا عَلَيْهِ
فَقَتَلَهُ ثُمّ ارْتَدّ مُشْرِكًا
.
[ أَسَمَاءُ مَنْ أَمَرَ الرّسُولُ بِقَتْلِهِمْ وَسَبَبُ ذَلِكَ ]
وَكَانَتْ لَهُ قَيْنَتَانِ فَرْتَنَى وَصَاحِبَتُهَا ،
وَكَانَتَا تُغَنّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِمَا مَعَهُ . وَالْحُوَيْرِثُ
بْنُ نُقَيْذِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ مِمّنْ يُؤْذِيهِ
بِمَكّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
حَمَلَ فَاطِمَةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، ابْنَتَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ يُرِيدُ بِهِمَا الْمَدِينَةَ ، فَنَخَسَ بِهِمَا
الْحُوَيْرِثُ بْنُ نُقَيْذٍ فَرَمَى بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاق وَمِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ : وَإِنّمَا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَتْلِهِ لِقَتْلِ الْأَنْصَارِيّ الّذِي كَانَ قَتَلَ
أَخَاهُ خَطَأً وَرُجُوعُهُ إلَى قُرَيْشٍ مُشْرِكًا . وَسَارَةُ مَوْلَاةٌ لِبَعْضِ بَنِي
عَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ . وَكَانَتْ سَارَةُ مِمّنْ
يُؤْذِيهِ بِمَكّةَ فَأَمّا عِكْرِمَةُ فَهَرَبَ إلَى الْيَمَنِ ، وَأَسْلَمْت
امْرَأَتُهُ أُمّ حَكِيمِ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ
مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّنَهُ فَخَرَجَتْ فِي طَلَبِهِ
إلَى الْيَمَنِ ، حَتّى أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ . وَأَمّا عَبْدُ اللّهِ بْنُ خَطَلٍ فَقَتَلَهُ سَعِيدُ بْنُ
حُرَيْثٍ الْمَخْزُومِيّ وَأَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيّ . اشْتَرَكَا فِي دَمِهِ
؟ وَأَمّا مِقْيَسُ بْنُ حُبَابَةَ فَقَتَلَهُ نُمَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَتْ أُخْتُ مِقْيَسٍ فِي قَتْلِهِ [ ص 411 ]
لَعَمْرِي لَقَدْ أَخْزَى نُمَيْلَةُ رَهْطَهُ ...
وَفَجّعَ أَضْيَافَ الشّتَاءِ بِمِقْيَسِ
فَلِلّهِ عَيْنَا مَنْ رَأَى مِثْلَ مِقْيَسٍ ... إذَا
النّفَسَاءُ أَصْبَحَتْ لَمْ تُخَرّسْ
وَأَمّا قَيْنَتَا ابْنِ خَطَلٍ فَقُتِلَتْ إحْدَاهُمَا
، وَهَرَبَتْ الْأُخْرَى ، حَتّى اُسْتُؤْمِنَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدُ فَأَمّنَهَا . وَأَمّا سَارَةُ فَاسْتُؤْمِنَ لَهَا
فَأَمّنَهَا ، ثُمّ بَقِيَتْ حَتّى أَوْطَأَهَا رَجُلٌ مِنْ النّاسِ فَرَسًا فِي
زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ بِالْأَبْطَحِ فَقَتَلَهَا . وَأَمّا الْحُوَيْرِثُ
بْنُ نُقَيْذٍ فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
[ حَدِيثُ الرّجُلَيْنِ اللّذَيْنِ أَمّنَتْهُمَا أُمّ هَانِئٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي
هِنْدَ ، عَنْ أَبِي مُرّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنّ أُمّ
هَانِئٍ بْنَةَ أَبِي طَالِبٍ قَالَتْ لَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَرّ إلَيّ رَجُلَانِ مِنْ أَحْمَائِي ،
مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَكَانَتْ عِنْدَ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ
، قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيّ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخِي ، فَقَالَ وَاَللّهِ
لَأَقْتُلَنّهُمَا ، فَأَغْلَقْت عَلَيْهِمَا بَابَ بَيْتِي ، ثُمّ جِئْت رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَوَجَدْته
يَغْتَسِلُ مِنْ جَفْنَةٍ إنّ فِيهَا لَأَثَرَ الْعَجِينِ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ
تَسْتُرُهُ بِثَوْبِهِ فَلَمّا اغْتَسَلَ أَخَذَ ثَوْبَهُ فَتَوَشّحَ بِهِ ثُمّ
صَلّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مِنْ الضّحَى ثُمّ انْصَرَفَ إلَيّ فَقَالَ مَرْحَبًا وَأَهْلًا
يَا أُمّ هَانِئٍ مَا جَاءَ بِك ؟ فَأَخْبَرْته خَبَرَ الرّجُلَيْنِ وَخَبَرَ
عَلِيّ فَقَالَ قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ ، وَأَمّنّا مَنْ أَمّنْت ، فَلَا
يَقْتُلْهُمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: هُمَا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
.
[ طَوَافُ الرّسُولِ بِالْبَيْتِ وَكَلِمَتُهُ فِيهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
ثَوْرٍ عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَمّا نَزَلَ مَكّةَ ، وَاطْمَأَنّ النّاسُ خَرَجَ حَتّى جَاءَ الْبَيْتَ
فَطَافَ بَهْ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرّكْنَ بِمِحْجَنِ فِي
يَدِهِ فَلَمّا قَضَى طَوَافَهُ دَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ ، فَأَخَذَ مِنْهُ
مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ ، فَفُتِحَتْ لَهُ فَدَخَلَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا حَمَامَةً
مِنْ عِيدَانٍ فَكَسَرَهَا بِيَدِهِ [ ص 412 ] طَرَحَهَا ، ثُمّ وَقَفَ عَلَى بَابِ
الْكَعْبَةِ وَقَدْ اُسْتُكِفّ لَهُ النّاسُ فِي الْمَسْجِدِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ
وَحْدَهُ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدّعَى فَهُوَ تَحْتَ
قَدَمَيّ هَاتَيْنِ إلّا سَدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةَ الْحَاجّ أَلَا
وَقَتِيلُ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ بِالسّوْطِ وَالْعَصَا ، فَفِيهِ الدّيَةُ
مُغَلّظَةً مِئَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا
أَوْلَادُهَا . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ اللّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ
نَخْوَةَ الْجَاهِلِيّةِ وَتَعَظّمَهَا بِالْآبَاءِ النّاسُ مِنْ آدَمَ وَآدَمُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ
عِنْدَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ } الْآيَةَ كُلّهَا . ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَا
تُرَوْنَ أَنّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرًا ، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ
كَرِيمٍ . قَالَ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطّلَقَاءُ
[ إقْرَارُ الرّسُولِ بْنَ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ ]
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ
الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ
مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ هَاكَ
مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ لِعَلِيّ إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا تَرْزَءُونَ
[ ص 413 ]
[ أَمْرُ الرّسُولِ بِطَمْسِ مَا بِالْبَيْتِ مِنْ
صُوَرٍ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ
يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ فَرَأَى
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ
بِهَا ، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ
مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا
نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
} ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كُلّهَا فَطُمِسَتْ .
[ صَلَاةُ الرّسُولِ بِالْبَيْتِ وَتَوَخّي ابْنِ عُمَرَ مَكَانَهُ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ، ثُمّ
خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَخَلّفَ بِلَالٌ
فَدَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى بِلَالٍ فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلّى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمْ صَلّى ، فَكَانَ
ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ
قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ
أَذْرُعٍ ، ثُمّ يُصَلّي ، يَتَوَخّى بِذَلِكَ الْمَوْضِعَ الّذِي قَالَ لَهُ
بِلَالٌ .
[ سَبَبُ إسْلَامِ عَتّابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَحَدّثَنِي : أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ
بِلَالٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَعَتّابُ بْنُ
أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ عَتّابُ
بْنُ أَسِيدٍ لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا أَلّا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا ،
فَيَسْمَعَ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : أَمَا
وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ لَحَقّ لَاتّبَعْته ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا
أَقُولُ شَيْئًا ، لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصَى ، فَخَرَجَ
عَلَيْهِمْ النّبِيّ ، فَقَالَ قَدْ عَلِمْتُ الّذِي قُلْتُمْ ، ثُمّ ذَكَرَ
ذَلِكَ لَهُمْ ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ
وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا ، فَنَقُولَ أَخْبَرَك .
[ سَبَبُ تَسْمِيَةِ الرّسُولِ لِخِرَاشِ بِالْقَتّالِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 414 ] أَبِي سَنْدَرٍ
الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَال
لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا ، وَكَانَ رَجُلًا شُجَاعًا ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ
غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانُهُ فَكَانَ إذَا بَاتَ فِي حَيّهِ بَاتَ
مُعْتَنِزًا ، فَإِذَا بُيّتَ الْحَيّ صَرَخُوا يَا أَحْمَرُ فَيَثُورُ مِثْلَ
الْأَسَدِ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ . فَأَقْبَلَ غَزِيّ ، مِنْ هُذَيْل ٍ يُرِيدُونَ
حَاضِرَهُ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَاضِرِ قَالَ ابْنُ الْأَثْوَعِ
الْهُذَلِيّ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيّ حَتّى أَنْظُرَ فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاضِرِ
أَحْمَرُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ فَإِنّ لَهُ غَطِيطًا لَا يَخْفَى ، قَالَ
فَاسْتَمَعَ فَلَمّا سَمِعَ غَطِيطَهُ مَشَى إلَيْهِ حَتّى وَضَعَ السّيْفَ فِي
صَدْرِهِ ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ ثُمّ أَغَارُوا عَلَى الْحَاضِرِ
فَصَرَخُوا يَا أَحْمَرُ وَلَا أَحْمَرَ لَهُمْ فَلَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ
وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ حَتّى
دَخَلَ مَكّةَ يَنْظُرُ وَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ النّاسِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ فَرَأَتْهُ
خُزَاعَةُ ، فَعَرَفُوهُ فَأَحَاطُوا بِهِ وَهُوَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ
مَكّةَ ، يَقُولُونَ أَأَنْتَ قَاتِلُ أَحْمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا قَاتِلُ
أَحْمَرَ فَمَهْ ؟ قَالَ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى
السّيْفِ . فَقَالَ هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ وَ وَاَللّهِ مَا نَظُنّ إلّا أَنّهُ
يُرِيدُ أَنْ يُفْرِجَ النّاسَ عَنْهُ . فَلَمّا انْفَرَجْنَا عَنْهُ حَمَلَ
عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالسّيْفِ فِي بَطْنِهِ . فَوَاَللّهِ [ ص 415 ] خُزَاعَةَ ؟
حَتّى انْجَعَفَ فَوَقَعَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ كَثُرَ
الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنّهُ قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ ، قَالَ إنّ خِرَاشًا
لَقَتّالٌ يَعِيبُهُ بِذَلِكَ .
[ مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ سَعْدٍ حِينَ ذَكّرَهُ
بِحُرْمَةِ مَكّةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي
سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ لَمّا قَدِمَ
عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ
، جِئْته ، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا ، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ
الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ
مُشْرِكٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا
، فَقَالَ يَأَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ
لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا ، وَلَا
يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا ، لَمْ تَحْلِلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلّ
لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي ، وَلَمْ تَحْلِلْ لِي إلّا هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبًا
عَلَى أَهْلِهَا . أَلَا ، ثُمّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ
فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَمَنْ قَالَ لَكُمْ إنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
( قَدْ ) قَاتَلَ فِيهَا ، فَقُولُوا : إنّ اللّهَ قَدْ
أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ
ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ
لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنّهُ فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مَقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ
بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ [
ص 416 ] وَدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الرّجُلَ
الّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ انْصَرِفْ
أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك ، إنّهَا لَا تَمْنَعُ
سَافِكَ دَمٍ وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ ؟ فَقَالَ أَبُو
شُرَيْحٍ إنّي كُنْتُ شَاهِدًا وَكُنْتَ غَائِبًا ، وَلَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا ،
وَقَدْ أَبَلَغْتُكَ فَأَنْتَ وَشَأْنُك .
[ أَوّلُ قَتِيلٍ وَدَاهُ الرّسُولُ يَوْمَ الْفَتْحِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ أَوّلَ قَتِيلٍ
وَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ
جُنَيْدَبُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ ، فَوَدَاهُ بِمِئَةِ
نَاقَةٍ .
[ تَخَوّفُ الْأَنْصَارِ مِنْ بَقَاءِ الرّسُولِ فِي
مَكّةَ وَطَمْأَنَةُ الرّسُولِ لَهُمْ
]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ
وَدَخَلَهَا ، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو ( اللّهَ ) ، وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ
، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتُرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا ؟ فَلَمّا
فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ
اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ
مَمَاتُكُمْ
[ سُقُوطُ أَصْنَامِ الْكَعْبَةِ بِإِشَارَةِ مِنْ
الرّسُولِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ
مِنْ أَهْلِ الرّوَايَةِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ . [ ص
417 ] عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ . عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ دَخَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ
. فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ
فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ
إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنّ الْبَاطِلَ
كَانَ زَهُوقًا فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ
لِقَفَاهُ . وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ
مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ ... لِمَنْ
يَرْجُو الثّوَابَ أَوْ الْعِقَابَا
[ كَيْفَ أَسْلَمَ فَضَالَةُ
]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي : أَنّ فَضَالَةَ بْن
عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ
. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفَضَالَةُ ؟ قَالَ
نَعَمْ فَضَالَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَاذَا
كُنْت تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ قَالَ لَا شَيْءَ كُنْت أَذْكُرُ اللّهَ قَالَ
فَضَحِكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ قَالَ اسْتَغْفِرْ
اللّهَ . ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ
يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ
شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ
كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت : لَا ،
وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ
قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت لَا ... يَأْبَى
عَلَيْك اللّهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْمَا رَأَيْتِ مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ
يَوْمَ تَكَسّرَ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْتِ دِينَ اللّهِ أَضْحَى بَيّنًا ... وَالشّرْكُ
يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ
[ أَمَانُ الرّسُولِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
جَعْفَرٍ . عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ [ ص 418 ] خَرَجَ صَفْوَانُ
بْنُ أُمَيّةَ يُرِيدُ جُدّةَ لِيَرْكَبَ مِنْهَا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالُ
عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ سَيّدُ قَوْمِهِ
وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْك ، لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَأَمّنْهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْك قَالَ هُوَ آمِنٌ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْطِنِي
آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَك ؛ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكّةَ فَخَرَجَ بِهَا
عُمَيْرٌ حَتّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ . فَقَالَ
يَا صَفْوَانُ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ، اللّهَ اللّهَ فِي نَفْسِك أَنْ
تُهْلِكَهَا . فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ جِئْتُك بِهِ قَالَ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي فَلَا تُكَلّمْنِي ،
قَالَ أَيْ صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي أَفْضَلُ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ
وَأَحْلَمُ النّاسِ وَخَيْرُ النّاسِ ابْنُ عَمّك ، عِزّهُ عِزّك . وَشَرَفُهُ شَرَفُك
وَمُلْكُهُ مُلْكُك ؟ قَالَ إنّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَ هُوَ أَحْلَمُ
مِنْ ذَاكَ وَأَكْرَمُ . فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَقَالَ صَفْوَانُ إنّ هَذَا يَزْعُمُ
أَنّك قَدْ أَمّنْتَنِي قَالَ صَدَقَ قَالَ فَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ
شَهْرَيْنِ ؟ قَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ صَفْوَانَ
قَالَ لِعُمَيْرِ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي ، فَلَا تُكَلّمْنِي ، فَإِنّك كَذّابٌ
لِمَا كَانَ صَنَعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ يَوْمِ بَدْرٍ .
[ إسْلَامُ عِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ : أَنّ
أُمّ حَكِيمِ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ -
وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ
بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا . فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ
بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ ؟ فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ
أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى
النّكَاحِ الْأَوّلِ .
[ إسْلَامُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَشِعْرُهُ فِي ذَلِك ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَمَى حَسّانُ بْن الزّبَعْرَى وَهُوَ
بِنَجْرَانَ بِبَيْتِ وَاحِدٍ مَا زَادَهُ عَلَيْهِ
لَا تَعْدَمَنْ رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ
فِي عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ
[ ص 419 ] الزّبَعْرَى خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ :
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا
فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُا
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيّ ... وَمَنْ
مَالَ مَيْلَهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبّي ... ثُمّ قَلْبِي
الشّهِيدُ أَنْتَ النّذِيرُ
إنّنِي عَنْكَ زَاجِرٌ ثَمّ حَيّا ... مِنْ لُؤَيّ
وَكُلّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الزّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ [ ص 420 ]
مَنَعَ الرّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... واللَيْلُ
مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
مِمّا أَتَانِي أَنّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتّ
كَأَنّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ...
عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْكَ مِنْ الّذِي ... أَسْدَيْتُ
إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ ... سَهْمٌ
وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ
الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ ... قَلْبِي
وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ...
وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدَايَ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي
فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْكَ مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةٌ ... نُورٌ
أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاكَ بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا
وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَكَ صَادِقٌ ... حَقّ وَأَنّك
فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللّهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ...
مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانَهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعٌ
تَمَكّنَ فِي الذّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ .
[ بَقَاءُ هُبَيْرَةَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِعْرُهُ فِي إسْلَامِ زَوْجِهِ أُمّ
هَانِئٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي
وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ
أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ وَاسْمُهَا هِنْدٌ . وَقَدْ قَالَ حِينَ
بَلَغَهُ إسْلَامُ أُمّ هَانِئٍ [ ص 421 ]
أَشَاقَتْكَ هِنْدٌ أَمْ أَتَاكَ سُؤَالُهَا ... كَذَاكَ
النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرّقَتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ...
بِنَجْرَانَ يُسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُنِي ...
وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْتُ عَشِيرَتِي ... سَأُرْدَى
وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَوْمٍ إذَا جَدّ جِدّهُمْ ... عَلَى
أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَانَ
مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا ...
مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ ... عَلَى
اللّهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فيَ غَيْرِ كُنْهِهِ ...
لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْتِ قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ...
وَعَطّفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةٍ ...
مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُرْوَى : وَقَطّعَتْ
الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
.
[ عِدّةُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ
فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشَرَةَ آلَافٍ . مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُ
مِئَةٍ . وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْفٌ ؟ وَمِنْ بَنِي غِفَار ٍ أَرْبَعُ مِئَةٍ وَمِنْ
أَسْلَمَ أَرْبَعُ مِئَةٍ ؟ وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ
وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفُ
الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ .
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي فَتْحِ مَكّةَ ]
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 422 ] [ ص 423 ]
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إلَى
عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعَفّيهَا
الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ
مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا ، وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ ... يُؤَرّقُنِي
إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ ... فَلَيَسَ
لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ
مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنّ
لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
ن وَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا ... إذَا مَا
كَانَ مَغْثٌ أَوْ لِحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا
يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... تُثِيرُ
النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى
أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ ، جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ ... يُلَطّمُهُنّ
بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ
الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ
اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللّهِ فِينَا ... وَرُوحُ
الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ
الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْتُ بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا
نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ سَيّرْتُ جُنْدًا ... هُمْ
الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ ... سِبَابٌ أَوْ
قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ
حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي ... مُغَلْغَلَةً
فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
بِأَنّ سُيُوفَنَا تَرَكَتْكَ عَبْدًا ... وَعَبْدُ
الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْتَ مُحَمّدًا وَأَجَبْتُ ... عَنْهُ وَعِنْدَ
اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... فَشَرّكُمَا
لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْتَ مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللّهِ
شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ ...
وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ ؟
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ
مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا
تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 424 ] قَالَهَا حَسّانُ
يَوْمَ الْفَتْحِ . وَيُرْوَى :
" لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَتْبَ فِيهِ "
وَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسّمَ
إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
[ شِعْرُ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ فِي الِاعْتِذَارِ إلَى الرّسُولِ عَمّا
قَالَ ابْنُ سَالِمٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ
الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا
كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ [ ص 425 ]
أَأَنْتَ الّذِي تُهْدَى مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ
اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ...
أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنُ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ
كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ...
وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنّ
وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّكَ قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ
صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ ... هُمْ
الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللّهِ أَنّي هَجَوْتُهُ ... فَلَا
حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْتُ وَيْلُ امّ فِتْيَةٍ ...
أُصِيبُوا بِنَحْسٍ لَا بِطَلْقٍ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءً
فَعَزّتْ عَبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّكَ قَدْ أَخَفَرْتَ إنْ كُنْتَ سَاعِيًا ...
بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَابْنَةِ مَهْوِدِ
ذُوَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ...
جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ اكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ ...
وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْتُ وَلَا دَمًا ... هَرَقْتُ
تَبَيّنْ عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ
[ شِعْرُ بُدَيْلٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ زُنَيْمٍ ]
فَأَجَابَهُ بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أُمّ
أَصْرَمَ ، فَقَالَ
بَكَى أَنَسٌ رَزْنًا فَأَعْوَلَهُ اُلْبُكَا ...
فَأَلّا عَدِيّا إذْ تُطَلّ وَتُبْعَدُ
بَكَيْتَ أَبَا عَبْسٍ لِقُرْبِ دِمَائِهَا ...
فَتُعْذِرَ إذْ لَا يُوقِدُ الْحَرْبَ مُوقِدُ
أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْخَنَادِمِ فِتْيَةٌ ... كِرَامٌ
فَسَلْ مِنْهُمْ نُفَيْلٌ وَمَعْبَدُ
هُنَالِكَ إنْ تُسْفَحْ دُمُوعُك لَا تُلَمْ ...
عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ الْعَيْنُ فَاكْمَدُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ .
[ شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ
بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ [ ص 426 ]
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ
غُدْوَةً وَبَنُو خُفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... بِيّ
الْخَيْرِ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ
صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعٍ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأَلْفٍ مِنْ
بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَا أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا ... وَرَشْقًا
بِالْمُرَيّشَةِ اللّطَافِ
تَرَى بَيْنَ الصّفُوفِ لَهَا حَفِيفًا ... كَمَا
انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ ... بِأَرْمَاحٍ
مُقَوّمَةِ الثّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا ... وَآبُوا
نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنّا ... مَوَاثِقَنَا
عَلَى حُسْنِ التّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمّوا ... غَدَاةَ
الرّوْعِ مِنّا بِانْصِرَافِ
[ شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
السّلَمِيّ فِي فَتْحِ مَكّةَ [ ص 427
]
مِنّا بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمّدٍ ... أَلْفٌ
تَسِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوّمُ
نَصَرُوا الرّسُولَ وَشَاهَدُوا أَيّامَهُ ...
وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللّقَاءِ مُقَدّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ... ضَنْكٍ
كَأَنّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ
جَرّتْ سَنَابِكَهَا بِنَجْدٍ قَبْلَهَا ... حَتّى
اسْتَقَادَ لَهَا الْحِجَازُ الْأَدْهَمُ
اللّهُ مَكّنَهُ لَهُ وَأَذَلّهُ ... حُكْمُ السّيُوفِ
لَنَا وَجَدّ مِزْحَمُ
عَوْدُ الرّيَاسَةِ شَامِخٌ عِرْنِينُهُ ... مُتَطَلّعٌ
ثُغَرَ الْمَكَارِمِ خِضْرِمُ
إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ
مِرْدَاسٍ فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ
أَنّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مِرْدَاسٍ وَثَنٌ يَعْبُدُهُ وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يُقَالُ
لَهُ ضِمَارِ ، فَلَمّا حَضَرَ مِرْدَاسٌ قَالَ لِعَبّاسِ أَيْ بُنَيّ اُعْبُدْ ضِمَارِ
فَإِنّهُ يَنْفَعُك وَيَضُرّك ، فَبَيْنَا عَبّاسٌ يَوْمًا عِنْدَ ضِمَارِ ، إذْ
سَمِعَ مِنْ جَوْفِ ضِمَارِ مُنَادِيًا يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلّهَا ... أَوْدَى
ضِمَارِ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ
ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارِ وَكَانَ يُعْبَدُ مَرّةً ... قَبْلَ
الْكِتَابِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
فَحَرّقَ عَبّاسٌ ضِمَارِ ، وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ
.
[ شِعْرُ جَعْدَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ جَعْدَةُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ الْخُزَاعِيّ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ :
أَكَعْبَ بْنُ عَمْرٍو دَعْوَةً غَيْرَ بَاطِلِ ...
لِحَيْنٍ لَهُ يَوْمَ الْحَدِيدِ مُتَاحِ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ...
لِتَقْتُلَهُ لَيْلًا بِغَيْرِ سِلَاحِ
وَنَحْنُ الْأُلَى سَدّتْ غَزَالَ خُيُولُنَا ...
وَلِفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجّ طِلَاحِ
خَطَرْنَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِجَحْفَلٍ ... ذَوِي
عَضُدٍ مِنْ خَيْلِنَا وَرِمَاحِ
[ ص 428
]
[ شِعْرُ بُجَيْدٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ ]
وَقَالَ بُجَيْدُ بْنُ عِمْرَانَ الْخُزَاعِيّ :
وَقَدْ أَنْشَأَ اللّهُ السّحَابَ بِنَصْرِنَا ...
رُكَامَ صِحَابِ الْهَيْدَبِ الْمُتَرَاكِبِ
وَهِجْرَتُنَا فِي أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا ...
كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍ وَكَاتِبِ
وَمِنْ أَجْلِنَا حَلّتْ بِمَكّةَ حُرْمَةٌ ...
لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسّيُوفِ الْقَوَاضِبِ
مَسِيرُ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ مِنْ كِنَانَةَ
وَمَسِيرُ عَلِيّ لِتَلَافِي خَطَأِ خَالِد
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى
اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلِ تِهَامَةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ
يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ . فَأَصَابَ مِنْهُمْ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ...
وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدِ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... نُصِيبُ
بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي
قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ حُنَيْنٍ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي
مَوْضِعِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ
عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ [ ص 429 ]
مَكّةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنْ
الْعَرَبِ : سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرّةَ فَوَطِئُوا بَنِي
جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةِ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمّا رَآهُ
الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ
قَدْ أَسْلَمُوا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ لَمّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ
السّلَاحَ قَالَ رَجُلٌ مِنّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ وَيْلَكُمْ يَا بَنِي
جَذِيمَةَ إنّهُ خَالِدٌ وَاَللّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارُ وَمَا
بَعْدَ الْإِسَارِ إلّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ وَاَللّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي
أَبَدًا . قَالَ فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا : يَا جَحْدَمُ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ
دِمَاءَنَا ؟ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعُوا السّلَاحَ وَوُضِعَتْ
الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ . فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ وَوَضَعَ
الْقَوْمُ السّلَاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ
بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ فَلَمّا وَضَعُوا
السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتِفُوا ، ثُمّ عَرَضَهُمْ
عَلَى السّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ
ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيد
[ غَضَبُ الرّسُولِ مِمّا فَعَلَ خَالِدٌ وَإِرْسَالُهُ عَلِيّا ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَحْمُودِيّ قَالَ
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَيْتُ كَأَنّي لَقِمْت
لُقْمَةً مِنْ حَيْسٍ فَالْتَذَذْتُ طَعْمَهَا ، فَاعْتَرَضَ فِي حَلْقِي مِنْهَا
شَيْءٌ حِينَ ابْتَلَعْتهَا ، فَأَدْخَلَ عَلِيّ يَدَهُ فَنَزَعَهُ ؟ فَقَالَ أَبُو
بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ هَذِهِ سَرِيّةٌ مِنْ سَرَايَاك تَبْعَثُهَا ، فَيَأْتِيك مِنْهَا بَعْضُ
مَا تُحِبّ ، وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا اعْتِرَاضٌ فَتَبْعَثُ عَلِيّا فَيُسَهّلُهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّهُ انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَأَتَى
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 430 ] هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟
فَقَالَ نَعَمْ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ فَنَهَمَهُ
خَالِدٌ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ
فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ :
أَمّا الْأَوّلُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَابْنِي
عَبْدُ اللّهِ وَأَمّا الْآخَرُ فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ
عَلِيّ قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَلِيّ ، اُخْرُجْ إلَى
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ
تَحْتَ قَدَمَيْك . فَخَرَجَ عَلِيّ حَتّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ
بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدَى لَهُمْ الدّمَاءَ
وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتّى إنّهُ لَيَدِي لَهُمْ مِيلَغَةَ
الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إلّا وَدَاهُ
بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ
عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ
لَمْ يُودَ لَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ فَإِنّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيّةَ
مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِمّا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ . ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ : فَقَالَ أَصَبْت
وَأَحْسَنْت قَالَ ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتّى إنّهُ لَيُرَى مِمّا
تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّات
[ مَعْذِرَةُ خَالِدٍ فِي قِتَالِ الْقَوْمِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ
يَعْذِرُ خَالِدًا إنّهُ قَالَ مَا قَاتَلْت حَتّى أَمَرَنِي بِذَلِك عَبْدُ
اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ ، وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ
الْإِسْلَامِ . [ ص 431 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ أَبُو عَمْرٍو
الْمَدَنِيّ : لَمّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ قَالُوا : صَبَأْنَا صَبَأْنَا
[ مَا كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ
وَزَجْرُ الرّسُولِ لِخَالِدِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ جَحْدَمٌ قَالَ
لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا السّلَاحَ وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ
يَا بَنِي جَذِيمَةَ ضَاعَ الضّرْبُ ، قَدْ كُنْت حَذّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ
فِيهِ قَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فِيمَا
بَلَغَنِي ، كَلَامٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ :
عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك .
فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْتُ قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك
ثَأَرْتَ بِعَمّك الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ .
فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا
خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ
أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكَتْ غَدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي
وَلَا رَوْحَتَهُ
[ مَا كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ جَذِيمَةَ مِنْ اسْتِعْدَادٍ
لِلْحَرْبِ ثُمّ صُلْحٍ ]
وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ
الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسٍ قَدْ خَرَجُوا تُجّارًا إلَى الْيَمَنِ ، وَمَعَ عَفّانَ ابْنُهُ عُثْمَانُ
وَمَعَ عَوْفٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَلَمّا أَقْبَلُوا حَمَلُوا مَالَ
رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ ، إلَى
وَرَثَتِهِ فَادّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ
وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى أَهْلِ
الْمَيّتِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى
الْمَالِ لِيَأْخُذُوهُ وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ
وَالْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَنَجَا عَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَابْنُهُ
عُثْمَانُ وَأَصَابُوا مَالَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَمَالَ عَوْفِ بْنِ
عَبْدِ عَوْفٍ فَانْطَلَقُوا بِهِ وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَالِدَ
بْنَ هِشَامٍ قَاتِلَ أَبِيهِ فَهَمّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ فَقَالَتْ
بَنُو جَذِيمَةَ : مَا كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِكُمْ عَنْ مَلَإِ مِنّا ، إنّمَا
عَدَا [ ص 432 ] كَانَ لَكُمْ قِبَلَنَا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فَقَبِلَتْ قُرَيْشٌ
ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْحَرْبَ .
[ شِعْرُ سَلْمَى فِيمَا بَيْنَ جَذِيمَةَ وَقُرَيْشٍ ]
وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَبَعْضُهُمْ
يَقُولُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا سَلْمَى :
وَلَوْلَا مَقَالُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ أَسْلِمُوا ...
لَلَاقَتْ سُلَيْمٌ يَوْمَ ذَلِكَ نَاطِحَا
لَمَاصَعَهُمْ بُسْرٌ وَأَصْحَابُ جَحْدَمٍ ... وَمُرّةُ
حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ نَاضِحَا
فَكَائِنْ تَرَى يَوْمَ الْغُمَيْصَاءِ مِنْ فَتًى ...
أُصِيبَ وَلَمْ يَجْرَحْ وَقَدْ كَانَ جَارِحَا
أَلَظّتْ بِخُطّابِ الْأَيَامَى وَطَلّقَتْ ...
غَدَاتَئِذٍ مِنْهُنّ مَنْ كَانَ نَاكِحَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " " بُسْرٌ
" ، " وَأَلَظّتْ بِخُطّابِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبّاسُ بْنُ
مِرْدَاسٍ وَيُقَالُ بَلْ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ [ ص 433 ]
دَعِي عَنْك تِقْوَال الضّلَالِ كَفَى بِنَا ...
لِكَبْشِ الْوَغَى فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ نَاطِحَا
فَخَالِدُ أَوْلَى بِالتّعَذّرِ مِنْكُمْ ... غَدَاةَ
عَلَا نَهْجًا مِنْ الْأَمْرِ وَاضِحَا
مُعَانًا بِأَمْرِ اللّهِ يُزْجِي إلَيْكُمْ ...
سَوَانِحَ لَا تَكْبُو لَهُ وَبَوَارِحَا
نَعَوْا مَالِكًا بِالسّهْلِ لَمّا هَبَطْنَهُ ...
عَوَابِسَ فِي كَابِي الْغُبَارِ كَوَالِحَا
فَإِنْ نَكُ أَثْكَلْنَاكِ سَلْمَى فَمَالِكٌ ...
تَرَكْتُمْ عَلَيْهِ نَائِحَاتٍ وَنَائِحَا
[ شِعْرُ الْجَحّافِ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى ]
وَقَالَ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
شَهِدْنَ مَعَ النّبِيّ مُسَوّمَاتٍ ... حُنَيْنًا
وَهْيَ دَامِيَةُ الْكِلَامِ
وَغَزْوَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَجَرّتْ ... سَنَابِكَهُنّ
بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ
نُعَرّضُ لِلطّعَانِ إذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا
تُعَرّضُ لِلّطَامِ
وَلَسْتُ بِخَالِعٍ عَنّي ثِيَابِي ... إذَا هَزّ
الْكُمَاةُ وَلَا أُرَامِي
وَلَكِنّي يَجُولُ الْمُهْرُ تَحْتِي ... إلَى
الْعَلَوَاتِ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ
[ حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْفَتَى الْجَذْمِيّ
يَوْمَ الْفَتْحِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أَبِي
حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ كُنْت يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ
الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لِي فَتَى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ فِي سِنّي ، وَقَدْ جُمِعَتْ
يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِرُمّةٍ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ
يَا فَتَى ، فَقُلْت : مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرّمّةِ
فَقَائِدِي إلَى هَؤُلَاءِ النّسْوَةِ حَتّى أَقْضِيَ إلَيْهِنّ حَاجَةً تَمّ
تَرُدّنِي بَعْدُ فَتَصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ ؟ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ
لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْت . فَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَقُدْته بِهَا ، حَتّى وَقَفَ
عَلَيْهِنّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشِ عَلَى نَفَذٍ مِنْ الْعَيْشِ [ ص 434 ]
أَرَيْتُكِ إذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ...
بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلّفَ
إدْلَاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت إذْ أَهْلُنَا مَعًا ...
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ إحْدَى الصّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النّوَى ...
وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنّي لَا ضَيّعْتُ سِرّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقَ
عَيْنِي عَنْك بَعْدَك رَائِقُ
سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... عَنْ
الْوُدّ إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَامُقُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالشّعْرِ يُنْكِرُ الْبَيْتَيْنِ الْآخِرَيْنِ مِنْهَا لَهُ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ
الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ ( قَالَ ) قَالَتْ وَأَنْتَ فَحُيّيت سَبْعًا
وَعَشْرَا ، وِتْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى . قَالَ ثُمّ انْصَرَفْتُ بِهِ .
فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ
أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ عَمّنْ كَانَ حَضَرَهَا
مِنْهُمْ قَالُوا : فَقَامَتْ إلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبّتْ
عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ .
[ شِعْرُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
[ ص 435 ]
جَزَى اللّهُ عَنّا مُدْلِجًا حَيْثُ أَصْبَحَتْ ...
جَزَاءَةَ بُوسَى حَيْثُ سَارَتْ وَحَلّتْ
أَقَامُوا عَلَى أَقْضَاضِنَا يَقْسِمُونَهَا ... وَقْدَ
نُهِلَتْ فِينَا الرّمَاحُ وَعَلّتْ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا دِينُ آلِ مُحَمّدٍ ... لَقَدْ
هَرَبَتْ مِنْهُمْ خُيُولُ فَشَلّتْ
وَمَا ضَرّهُمْ أَنْ لَا يُعِينُوا كَتِيبَةً ...
كَرِجْلِ جَرَادٍ أُرْسِلَتْ فَاشْمَعَلّتِ
فَإِمّا يَنْبُوا أَوْ يَثُوبُوا لِأَمْرِهِمْ ... فَلَا
نَحْنُ نَجْزِيهِمْ بِمَا قَدْ أَضَلّتْ
فَأَجَابَهُ وَهْبٌ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَقَالَ
دَعَوْنَا إلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَقّ عَامِرًا ...
فَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ إذْ تَوَلّتْ
وَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ لَا أَبَا لَهُمْ ...
لِأَنْ سَفِهَتْ أَحْلَامُهُمْ ثُمّ ضَلّتْ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
لِيَهْنِئْ بَنِي كَعْبٍ مُقَدّمُ خَالِدٍ ...
وَأَصْحَابِهِ إذْ صَبّحَتْنَا الْكَتَائِبُ
فَلَا تِرَةٌ يَسْعَى بِهَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ ... وَقَدْ
كُنْتَ مَكْفِيّا لَوَ انّكَ غَائِبُ
فَلَا قَوْمُنَا يَنْهَوْنَ عَنّا غُوَاتَهُمْ ... وَلَا
الدّاءُ مِنْ يَوْمِ الْغُمَيْصَاءِ ذَاهِبُ
[ شِعْرُ غُلَامٍ جَذْمِيّ هَارِبٍ أَمَامَ خَالِدٍ ]
وَقَالَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ يَسُوقُ
بِأُمّهِ وَأُخْتَيْنِ لَهُ وَهُوَ هَارِبٌ بِهِنّ مِنْ جَيْشِ خَالِدٍ
رَخّينَ أَذْيَالَ الْمُرُوطِ وَارْبَعَنْ ... مَشْيَ
حَيِيّاتٍ كَأَنْ لَمْ يُفْزَعَنْ
إنْ تُمْنَعْ الْيَوْمَ نِسَاءٌ تُمْنَعَنْ
[ ارْتِجَازُ غِلْمَةٍ مَعَ بَنِي جَذِيمَةَ حِينَ
سَمِعُوا بِخَالِدِ ]
وَقَالَ غِلْمَةٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ يُقَالُ لَهُمْ
بَنُو مُسَاحِقٍ يَرْتَجِزُونَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ بَيْضَاءُ الْإِطِلْ ...
يَحُوزُهَا ذُو ثَلّةٍ وَذُو إبِلْ
لَأُغْنِيَنّ الْيَوْمَ مَا أَغْنَى رَجُلْ [ ص 436 ]
وَقَالَ الْآخَرُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ تُلْهِي الْعِرْسَا ... لَا
تَمْلَأُ الْحَيْزُومَ مِنْهَا نَهْسَا
لَأَضْرِبَنّ الْيَوْمَ ضَرْبًا وَعْسَا ... ضَرْبَ
الْمُحِلّينَ مَخَاضًا قُعْسَا
وَقَالَ الْآخَرُ
أَقْسَمْتُ مَا إنْ خَادِرٌ ذُو لِبْدَهْ ... شَثْنُ
الْبَنَانِ فِي غَدَاةٍ بَرْدَهْ
جَهْمُ الْمُحَيّا ذُو سِبَالٍ وَرْدَهْ ... يُرْزِمُ
بَيْنَ أَيْكَةٍ وَجَحْدَهْ
ضَارٍ بِتَأْكَالِ الرّجَالِ وَحْدَهْ ... بِأَصْدَقَ
الْغَدَاةَ مَنّي نَجْدَهْ
مَسِيرُ
خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزّى
ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى ، وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ
بَيْتًا يُعَظّمُهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلّهَا ، وَكَانَتْ
سَدَنَتُهَا وَحُجّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حَلْفَاءِ بَنِي
هَاشِمٍ فَلَمّا سَمِعَ صَاحِبُهَا السّلَمِيّ بِمَسِيرِ خَالِدٍ إلَيْهَا ،
عَلّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ
يَقُولُ [ ص 437 ]
أَيَا عُزّ شُدّي شِدّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى
خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
يَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ...
فَبُوئِي بِإِثْمِ عَاجِلٍ أَوْ تَنَصّرِي
فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا ، ثُمّ
رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ
شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ
.
غَزْوَةُ
حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ
بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ
مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّصْرِيّ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ
هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ
بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ
قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ
هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ
وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ
إلّا التّيَمّنَ بِرَأْيِهِ وَمُعْرِفَتَهُ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا
، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ ( و ) فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ
بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ
النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ [ ص 438 ] دُرَيْدُ
بْنُ الصّمّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَ بِأَيّ وَادٍ
أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ قَالَ نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضِرْسٌ
وَلَا سَهْلٌ دَهْسٌ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ . وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ
وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ أَيْنَ مَالِكٌ
؟ قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْتَ
رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ
مَالِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ
الشّاءِ ؟ قَالَ سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
قَالَ وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ
أَهْلَهُ وَمَالَهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ قَالَ فَأَنْقَضَ بِهِ . ثُمّ قَالَ
رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ
لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك
فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟
قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ، قَالَ غَابَ الْحَدّ وَالْجِدّ ،
وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْتُ
أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟
قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ ذَانِكَ
الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ يَا مَالِكُ إنّك لَمْ
تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ [ ص 439 ]
هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ
إلَى مُتَمَنّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ الْقَ الصّبَاءَ عَلَى
مُتُونِ الْخَيْلِ فَإِنْ كَانَتْ لَك لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك
أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك . قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ
ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا
مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ
ظَهْرِي . وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ
رَأْيٌ ؟ فَقَالُوا : أَطَعْنَاك ، فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ
لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي
:
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ... كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
[ الْمَلَائِكَةُ وَعُيُونُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ
إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ
وَاحِدٍ . قَالَ . وَحَدّثَنِي أُمَيّةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ
أَنّهُ حَدّثَ أَنّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ ،
فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟
فَقَالُوا رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا
تَمَاسَكْنَا أَنْ . أَصَابَنَا مَا تَرَى ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَنْ
وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيد
[ بَعْثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا عَلَى هَوَازِنَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ [ ص 440 ]
أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ
حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ . فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ
فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا
لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْ
مَالِكٍ وَأَمْرِ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ
فَقَالَ عُمَرُ كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ . فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إنْ
كَذّبْتنِي فَرُبّمَا كَذّبْت بِالْحَقّ يَا عُمَرُ فَقَدْ كَذّبْتَ مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنّي . فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ
ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَدْ كُنْت ضَالّا فَهَدَاك اللّهُ يَا عُمَرُ
[ سَأَلَ الرّسُولُ صَفْوَانَ أَدْرَاعَهُ وَسِلَاحَهُ
فَقَبِلَ ]
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ
صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ . فَقَالَ يأ أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ
فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ بَلْ
عَارِيَةٌ وَمَضْمُونَةٌ حَتّى نُؤَدّيَهَا إلَيْك ، قَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ
فَأَعْطَاهُ مِئَةَ دِرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ
حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ .
[ خُرُوجُ الرّسُولِ بِجَيْشِهِ إلَى هَوَازِنَ ]
قَالَ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ مَعَ عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ ، فَكَانُوا اثْنَيْ
عَشَرَ أَلْفًا ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَتّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ عَلَى
مَكّةَ ، أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ النّاسِ ثُمّ مَضَى رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ
[ ص 441 ]
[ قَصِيدَةُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ]
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ :
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ ... وَسْطَ
الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ
يَا لَهْفَ أُمّ كِلَابٍ إذْ تُبَيّتُهُمْ ... خَيْلُ
ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدّوا عَقْدَ ذِمّتِكُمْ ... أَنّ
ابْنَ عَمّكُمْ سَعْدٌ وَدُهْمَانُ
لَنْ تَرْجِعُوهَا وَإِنْ كَانَتْ مُجَلّلَةً ... مَا
دَامَ فِي النّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جُلّلَ مِنْ سَوْآتِهَا حَضَنٌ ... وَسَالَ
ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ ... إذْ قَالَ
كُلّ شِوَاءِ الْعَيْرِ جُوفَانُ
وَفِي هَوَازِنَ قَوْمٌ غَيْرَ أَنّ بِهِمْ ... دَاءَ
الْيَمَانِيّ فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرّ عَهْدُهُمْ ...
وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطّعْنِ قَدْ لَانُوا
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنّي
رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا
لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ...
وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادَ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ...
وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي
مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
[ ص 442 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَبِيلَا مُزَيْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ قَوْلِهِ " أَبْلِغْ
هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا " إلَى آخِرِهَا ، فِي هَذَا الْيَوْمِ
وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَهُمَا مَفْصُولَتَانِ وَلَكِنّ
ابْنَ إسْحَاقَ جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً
.
[ أَمْرُ ذَاتِ أَنْوَاطٍ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّؤَلِيّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ
اللّيْثِيّ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ
قَالَ فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ ، قَالَ وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ
سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا
ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ
عَلَيْهَا ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا . قَالَ
فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً قَالَ فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ يَا
رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ
مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : " اجْعَلْ لَنَا
إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا السّنَنُ
لَتَرْكَبُنّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
[ لِقَاءُ هَوَازِنَ وَثَبَاتُ الرّسُولِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، [ ص 443 ] قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا
فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ
انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ . قَدْ
سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ
وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا
رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ
رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ . وَانْحَازَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ
أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ ، أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى
بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ
بَيْتِهِ
[ أَسَمَاءُ مَنْ ثَبَتَ مَعَ الرّسُولِ ]
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ
بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ ، وَابْنُهُ
وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاس ِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ
زَيْدٍ . وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ
أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ
وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ
أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرَ
بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ
خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ
رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَاتّبَعُوهُ .
[ شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ وَغَيْرِهِ بِالْمُسْلِمِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ
وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي
أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ : لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ
دُونَ الْبَحْرِ وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ . وَصَرَخَ
جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ [ ص
444 ] أَخِيهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ
فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاكَ فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ
مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي هِجَاءِ كَلَدَةَ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْتُ سَوَادًا مِنْ بَعِيدٍ فَرَاعَنِي ... أَبُو
حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا ...
ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا
كَلَدَةَ لِأُمّهِ .
[ عَجْزُ شَيْبَةَ عَنْ قَتْلِ الرّسُولِ وَقَدْ هَمّ بِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ
بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ
ثَأْرِي ( مِنْ مُحَمّدٍ ) ، وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ
أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ
وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي . قَال ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ،
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ
مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ
نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّة قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ
رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا
.
[ رُجُوعُ النّاسِ بِنِدَاءِ الْعَبّاسِ وَالِانْتِصَارُ
بَعْدَ الْهَزِيمَةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ
كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ
إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخِذٌ بِحَكَمَةِ [ ص
445 ] قَالَ وَكُنْتُ امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ
أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا
عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ
قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ
بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دِرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي
عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي
سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِئَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ
فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لَلْأَنْصَارِ . ثُمّ
خَلَصَتْ أَخَيْرًا : يَا لَلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صُبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ
فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ .
فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ
الْوَطِيسُ
[ بَلَاءُ عَلِيّ وَأَنْصَارِيّ فِي هَذِهِ الْحَرْبِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ
عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ
اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَيَأْتِيهِ
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ
عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ
قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ
فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى
مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 446 ]
قَالَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ
يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ حَسَنَ
الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ فَقَالَ مَنْ
هَذَا ؟ قَالَ أَنَا ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ .
[ شَأْنُ أُمّ سُلَيْمٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَفَتَ
فَرَأَى أُمّ سُلَيْمٍ بْنَةَ مِلْحَانَ وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ
حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا ، وَإِنّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي طَلْحَةَ وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزّهَا
الْجَمَلُ فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا ، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ
مَعَ الْخِطَامِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قُلْت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ
هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك كَمَا تَقْتُلُ الّذِينَ يُقَاتِلُونَك ، فَإِنّهُمْ
لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَ
يَكْفِي اللّهُ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا أَبُو
طَلْحَةَ مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَكِ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ خِنْجَرٌ
أَخَذْته ، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [ ص 447 ] قَالَ يَقُولُ
أَبُو طَلْحَةَ أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ
الرّمَيْصَاءُ .
[ شِعْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي هَزِيمَةِ النّاسِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَجّهَ إلَى حُنَيْنٍ ، قَدْ ضَمّ بَنِي سُلَيْمٍ الضّحّاكَ
بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَانُوا إلَيْهِ وَمَعَهُ وَلَمّا انْهَزَمَ
النّاسُ قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ يَرْتَجِزُ بِفَرَسِهِ
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى
مِثْلِكَ يَحْمِي وَيَكُرّ
إذَا أُضِيعَ الصّفّ يَوْمًا والدّبُرْ ... ثُمّ
احْزَأَلّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبٌ يَكِلّ فِيهِنّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعَنُ
الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
حِينَ يُذَمّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ...
وَأَطْعَنُ النّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
لَهَا مِنْ الْجَوْفِ رَشَاشٌ مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ
تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلِ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْدُ
يَا بْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرّ
قَدْ نَفِدَ الضّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ
عَلِمَ الْبِيضُ الطّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنّي فِي أَمْثَالِهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إذْ تُخْرَجُ
الْحَاصِنُ مِنْ تَحْتِ السّتُرْ
[ ص 448 ] وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا :
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا
تَغُرّنّكَ رِجْلٌ نَادِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِغَيْرِ
مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ
[ شَأْنُ أَبِي قَتَادَةَ وَسَلَبُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ ، أَنّهُ حُدّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ قَالَ
وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي
غِفَارٍ أَبِي مُحَمّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَا : قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : رَأَيْت يَوْمَ
حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا ، قَالَ وَإِذَا رَجُلٌ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى
الْمُسْلِمِ . قَالَ فَأَتَيْته ، فَضَرَبْت يَدَهُ فَقَطَعْتُهَا ،
وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَوَاَللّهِ مَا أَرْسَلَنِي حَتّى وَجَدْت
رِيحَ الدّمِ وَيُرْوَى : رِيحَ الْمَوْتِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، وَكَادَ
يَقْتُلُنِي ، فَلَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ لَقَتَلَنِي ، فَسَقَطَ فَضَرَبْته
فَقَتَلْته ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ وَمَرّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ
مَكّةَ فَسَلَبَهُ فَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ
، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا
فَلَهُ سَلَبُه فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَتِيلًا
ذَا سَلَبٍ فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ ؟
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ
: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ
عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ سَلَبِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ لَا وَاَللّهِ لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ
اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللّهِ تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ اُرْدُدْ عَلَيْهِ
سَلَبَ قَتِيلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 449
] صَدَقَ اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَأَخَذْته مِنْهُ
فَبِعْته ، فَاشْتَرَيْت بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ
اعْتَقَدْتُهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ،
قَالَ لَقَدْ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحْدَهُ عِشْرِينَ رَجُلًا .
[ نُصْرَةُ الْمَلَائِكَةِ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ
يَسَارٍ ، ( أَنّهُ حُدّثَ ) عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُ
قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ
الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْت
، فَإِذَا نَمَلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا
الْمَلَائِكَةُ ثُمّ لَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ .
[ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَزَمَ اللّهُ الْمُشْرِكِينَ
مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ ، وَأَمْكَنَ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْهُمْ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ...
وَاَللّهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالرّوَايَةِ لِلشّعْرِ
غَلَبْتِ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَخَيْلُهُ
أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ
اسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ
رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ الْحَارِثِ [ ص 450 ] وَكَانَتْ رَايَتُهُمْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ فَلَمّا قُتِلَ
أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ لَمّا
بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلُهُ قَالَ أَبْعَدَهُ
اللّهُ فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا .
[ الْغُلَامُ النّصْرَانِيّ الْأَغْرَلُ وَمَا كَادَ يَلْحَقُ ثَقِيفًا
بِسَبَبِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ قَالَ فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ
يَسْلُبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ ، إذْ كَشَفَ الْعَبْدَ يَسْلُبُهُ فَوَجَدَهُ أَغْرَلَ
. قَالَ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللّهُ أَنّ
ثَقِيفًا غُرْلٌ . قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ
وَخَشِيت أَنْ تَذْهَبَ عَنّا فِي الْعَرَبِ ، فَقُلْتُ لَا تَقُلْ ذَاكَ فَدَاك
أَبِي وَأُمّي ، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ . قَالَ ثُمّ جَعَلْت
أَكْشِفُ لَهُ عَنْ الْقَتْلَى ، وَأَقُولُ لَهُ أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَتَنِينَ
كَمَا تَرَى
[ فِرَارُ قَارِبٍ وَقَوْمِهِ وَشِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فِي هِجَائِهِمْ ]
قَالَ ابْنُ أَبِي إسْحَاقَ وَكَانَتْ رَايَةُ
الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ
رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ وَقَوْمُهُ مِنْ
الْأَحْلَافِ ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْأَحْلَافِ غَيْرُ رَجُلَيْنِ رَجُلٍ مِنْ غِيَرَةَ
يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُبّةَ يُقَال لَهُ الْجُلَاحُ ؟ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ
قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ
يَعْنِي بِابْنِ هُنَيْدَةَ الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ .
[ قَصِيدَةٌ أُخْرَى لِابْنِ مِرْدَاسٍ ]
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ يَذْكُرُ
قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ وَذَا الْخِمَارِ
وَحَبْسَهُ قَوْمَهُ لِلْمَوْتِ [ ص 451 ] [ ص 452 ]
أَلَا مِنْ مُبَلّغٍ غَيْلَانَ عَنّي ... وَسَوْفَ
إخَالُ يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةَ إنّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا
غَيْرَ قَوْلِكُمَا يَسِيرُ
بِأَنّ مُحَمّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبّ لَا يَضِلّ
وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلّ فَتَى
يُخَايِرُهُ مَخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قَسِيّ ... بِوَجّ إذْ
تُقُسّمَتْ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ
وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللّهِ
ضَاحِيَةً تَسِيرُ
يَؤُمّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... عَلَى حَنَقٍ
نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمْ مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إلَيْهِمْ
بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا
فَكُنّا أُسْدَ لِيّةَ ثَمّ حَتّى ... أَبَحْنَاهَا
وَأُسْلِمَتْ النّصُورُ
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأَقْلَعَ
وَالدّمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنْ الْأَيّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ ... وَلَمْ
يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ ... عَلَى
رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ
عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ مَكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سَنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ
بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ
فَأَفْلَتَ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ جَرِيضًا ... وَقُتّلَ
مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرُ
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو الْتَوَانِي ... وَلَا
الْغَلِقُ الصّرَيّرَةُ الْحَصُورُ
أَحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَلّكُوهُ ... أُمُورَهُمْ
وَأَفْلَتَتْ الصّقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ ... أُهِينَ لَهَا
الْفَصَافِصُ وَالشّعِيرُ
فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تُقُسّمتَ
الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنّ الرّيَاسَةَ عُمّمُوهَا ... عَلَى يُمْنٍ
أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ
إلَى عِزّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ...
أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرَ السّمِيرُ
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ
اللّهِ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكّتْ بَنِي سَعْدٍ وَحَرْبٌ ... بِرَهْطِ بَنِي
غَزِيّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إلَى
الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ تَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ
بَرَأَتْ مِنْ الْإِحَنِ الصّدُورُ
كَأَنّ الْقَوْمَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنْ
الْبَغْضَاءِ بَعْد السّلْمِ عُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : غَيْلَانُ غَيْلَانُ بْنُ
سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَعُرْوَةُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ .
[ مَقْتَلُ دُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 453 ] وَلَمّا انْهَزَمَ
الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ ، وَعَسْكَرَ
بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ ، وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ
تَوَجّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إلّا بَنُو غِيَرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنْ
النّاسِ وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا . فَأَدْرَكَ رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعِ
بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّالِ بْنِ
عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ وَهِيَ
أُمّهُ فَغَلَبَتْ عَلَى اسْمِهِ وَيُقَالُ ابْنُ لَذْعَةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ فَأَخَذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ
امْرَأَةٌ وَذَلِكَ أَنّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ فَإِذَا بِرَجُلِ فَأَنَاخَ بِهِ
فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِذَا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ
الْغُلَامُ فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ مَاذَا تُرِيدُ بِي قَالَ أَقْتُلُك . قَالَ
وَمَنْ أَنْتَ قَالَ أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رُفَيْعٍ السّلَمِيّ ثُمّ ضَرَبَهُ
بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا ، فَقَالَ بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ
سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخّرِ الرّحْلِ وَكَانَ الرّحْلُ فِي الشّجَارِ ثُمّ
اضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ فَإِنّي كُنْت
كَذَلِكَ أَضْرِبُ الرّجَالَ ثُمّ إذَا أَتَيْتَ أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك
قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ ، فَرُبّ وَاَللّهِ يَوْمٍ قَدْ مَنَعْتُ فِيهِ نِسَاءَك
فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ فَوَقَعَ تَكَشّفَ فَإِذَا
عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقِرْطَاسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ
أَعْرَاءً فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ
فَقَالَتْ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا . فَقَالَتْ
عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ فِي قَتْلِ رَبِيعَةَ دُرَيْدًا [ ص 454 ]
لَعَمْرُكَ مَا خَشِيت عَلَى دُرَيْدٍ ... بِبَطْنِ
سُمَيْرَة ٍ جَيْشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عَنْهُ الْإِلَهُ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَعَقّتْهُمْ
بِمَا فَعَلُوا عَقَاقِ
وَأَسْقَانَا إذَا قُدْنَا إلَيْهِمْ ... دِمَاءَ
خِيَارِهِمْ عِنْدَ التّلَاقِي
فَرُبّ عَظِيمَةٍ دَافَعْتَ عَنْهُمْ ... وَقَدْ
بَلَغَتْ نَفُوسُهُمْ التّرَاقِي
وَرُبّ كَرِيمَةٍ أَعْتَقْتَ مِنْهُمْ ... وَأُخْرَى
قَدْ فَكَكْتَ مِنْ الْوَثَاقِ
وَرُبّ مُنَوّهٍ بِكَ مِنْ سُلَيْمٍ ... أَجَبْتَ وَقَدْ
دَعَاكَ بِلَا رَمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقًا ... وَهَمّا مَاعَ
مِنْهُ مُخّ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيْلِك بَعْدَ أَيْنٍ ... بِذِي بَقَرٍ
إلَى فَيْفِ النّهَاقِ
وَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَيْضًا :
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْتُ قَدْ صَدَقُوا ...
فَظَلّ دَمْعِي عَلَى السّرْبَالِ يَنْحَدِرُ
لَوْلَا الّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلّهُمْ ... رَأَتْ
سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إذَنْ لَصَبّحَهُمْ غِبّا وَظَاهِرَةً ... حَيْثُ
اسْتَقَرّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ اسْمُ الّذِي قَتَلَ
دُرَيْدًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ قُنَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ .
[ مَقْتَلُ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا
عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ فَأَدْرَكَ مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ
فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمِ فَقُتِلَ فَأَخَذَ
الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ [ ص 455 ]
وَهَزَمَهُمْ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الّذِي رَمَى
أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ بِسَهْمِ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ
إنْ تَسْأَلُوا عَنّي فَإِنّي سَلَمَهْ ... ابْنُ
سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسّمَهْ
أضْرِبُ بِالسّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
[ دُعَاءُ الرّسُولِ لِبَنِي رِئَابٍ ]
وَسَمَادِيرُ أُمّهُ . وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ بَنِي
نَصْر ٍ فِي بَنِي رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْسٍ وَهُوَ
الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَوْرَاءِ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي وَهْبِ بْنِ رِئَاب ٍ
قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ .
[ وَصِيّةُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ لِقَوْمِهِ وَلِقَاءُ الزّبَيْرِ لَهُمْ ]
وَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْف ٍ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ
فَوَقَفَ فِي فَوَارِسَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى ؟ ثَنِيّةٍ مِنْ الطّرِيقِ وَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ قِفُوا حَتّى تَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ .
فَوَقَفَ هُنَاكَ حَتّى مَضَى مَنْ كَانَ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ مُنْهَزِمَةِ النّاسِ
فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْف ٍ فِي ذَلِكَ
وَلَوْلَا كَرّتَانِ عَلَى مُحَاجٍ ... لَضَاقَ عَلَى
الْعَضَارِيطِ الطّرِيقُ
وَلَوْلَا كَرّ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرٍ ... لَدَى
النّخَلَاتِ مُنْدَفَعَ الشّدِيقِ
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ ... خَزَايَا
مُحْقِبِينَ عَلَى شُقُوقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَالِكِ
بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ . وَمِمّا يَدُلّك [ ص 456 ] دُرَيْدِ
بْنِ الصّمّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟
فَقَالُوا لَهُ لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَجَعْفَرٌ بْنُ كِلَابٍ .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْف ٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ " لَآبَتْ جَعْفَرٌ
وَبَنُو هِلَالٍ " . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ خَيْلًا
طَلَعَتْ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثّنِيّةِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ
مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا : نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحِهِمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ
طَوِيلَةً بَوَادّهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ ، وَلَا بَأْسَ
عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي . ثُمّ
طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟
قَالُوا : نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحِهِمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ
فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ .
فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ .
ثُمّ طَلَعَ فَارِسٌ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى فَارِسًا
طَوِيلَ الْبَادّ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ
بِمُلَاءَةِ حَمْرَاءَ فَقَالَ هَذَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَأَحْلِفُ
بِاللّاتِ لَيُخَالِطَنّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ . فَلَمّا انْتَهَى الزّبَيْرُ إلَى
أَصْلِ الثّنِيّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ
حَتّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا .
[ شِعْرُ سَلَمَةَ فِي فِرَارِهِ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ
وَهُوَ يَسُوقُ بِامْرَأَتِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ
نَسّيْتِنِي مَا كُنْتِ غَيْرَ مُصَابَةٍ ... وَلَقَدْ
عَرَفْتِ غَدَاةَ نَعْفِ الْأَظْرُبِ
أَنّي مَنَعْتُكِ وَالرّكُوبُ مُحَبّبٌ ... وَمَشَيْتُ
خَلْفَكِ مِثْلَ مَشْيِ الْأَنْكَبِ
إذْ فَرّ كُلّ مُهَذّبٍ ذِي لِمّةٍ ... عَنْ أُمّهِ
وَخَلِيلِهِ لَمْ يَعْقِبِ
[ ص 457
]
[ بَقِيّةُ حَدِيثِ مَقْتَلِ أَبِي عَامِرٍ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ أَنّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ
لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشَرَةَ إخْوَةٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ
فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ
اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ
فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ
اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ
عَلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا ، وَيَحْمِلُ أَبُو عَامِرٍ وَيَقُولُ ذَلِكَ حَتّى
قَتَلَ تِسْعَةً وَبَقِيَ الْعَاشِرُ فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ
أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ
عَلَيْهِ فَقَالَ الرّجُلُ اللّهُمّ لَا تَشْهَدْ عَلَيّ فَكَفّ عَنْهُ أَبُو
عَامِرٍ فَأَفْلَتْ ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَكَانَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَآهُ قَالَ هَذَا شَرِيدُ أَبِي
عَامِرٍ . وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا
الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ
وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ . وَوَلِيَ النّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ
يَرْثِيهِمَا
إنّ الرّزِيّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى
جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا
هَبّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنّ عَلَى عِطْفِهِ
مُجْسَدَا
فَلَمْ تَرَ فِي النّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلّ
عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
[ نَهْيُ الرّسُولِ عَنْ قَتْلِ الضّعَفَاءِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا
: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ [ ص 458 ] خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالنّاسُ . مُتَقَصّفُونَ عَلَيْهَا فَقَالَ مَا هَذَا ؟
فَقَالُوا : امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ أَدْرِكْ خَالِدًا ، فَقُلْ لَهُ :
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ
وَلِيدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا
[ شَأْنُ بِجَادٍ وَالشّيْمَاءِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَحَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ
بْنِ بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
يَوْمَئِذٍ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ ، رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ
، فَلَا يُفْلِتَنّكُم ، وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَلَمّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ
سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ وَسَاقُوا مَعَهُ الشّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْعُزّى أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ
فَعَنُفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ تَعَلَمُوا
وَاَللّهِ أَنّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرّضَاعَةِ فَلَمْ يُصَدّقُوهَا حَتّى
أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ ، قَالَ فَلَمّا اُنْتُهِيَ بِهَا
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ
إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ عَضّةٌ
عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك ؛ قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ
فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ وَخَيّرَهَا ، وَقَالَ إنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي مُحَبّةٌ
مُكْرَمَةٌ وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك فَعَلْتُ فَقَالَتْ
بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي .فَمَتّعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهَا إلَى قَوْمِهَا . فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ
أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ ، وَجَارِيَةً فَزَوّجَتْ
أَحَدَهُمَا الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ [ ص
459 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { لَقَدْ
نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
كَثْرَتُكُمْ } . . . إلَى قَوْلِهِ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }
[ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ
اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ
الْعُزّى : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ
، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجَنَاحُ فَقُتِلَ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ : سُرَاقَةُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ . وَمِنْ الْأَشْعَرِيّينَ أَبُو
عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ .
[ جَمْعُ سَبَايَا حُنَيْنٍ ]
ثُمّ جُمِعَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا ، وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ
مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالسّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعْرَانَةِ ، فَحُبِسَتْ بِهَا .
[ شِعْرُ بُجَيْرٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ ]
وَقَالُ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي
يَوْمِ حُنَيْنٍ :
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلّيْتُمْ ... حِينَ
اسْتَخَفّ الرّعْبُ كُلّ جَبَانِ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ...
وَسَوَابِحٌ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفّهِ ... وَمُقَطّرٍ
بِسَنَابِكِ وَلَبَانِ
وَاَللّهُ أَكْرَمَنَا وَأَظْهَرَ دِينَنَا ...
وَأَعَزّنَا بِعِبَادَةِ الرّحْمَنِ
وَاَللّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ...
وَأَذَلّهُمْ بِعِبَادَةِ الشّيْطَانِ
[ ص 460 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيَرْوِي فِيهَا
بَعْضُ الرّوَاةِ
إذْ قَامَ عَمّ نَبِيّكُمْ وَوَلِيّهُ ... يَدْعُونَ يَا
لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الّذِينَ هُمْ أَجَابُوا رَبّهُمْ ... يَوْمَ
الْعُرَيْضِ وَبَيْعَةِ الرّضْوَانِ
[ شِعْرٌ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
إنّي وَالسّوَابِحَ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو
الرّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْتُ مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ
الشّعْبِ أَمْسِ مِنْ الْعَذَابِ
هُمْ رَأْسُ الْعَدُوّ مِنْ اهْلِ نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمْ
أَلَذّ مْنَ الشّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... وَحَكّتْ
بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ
تُعَفّرُ بِالتّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ
نِسَاؤُهُمْ وَالنّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسّ ... إلَى
الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنّهَابِ
بِذِي لَجَبٍ رَسُولُ اللّهِ فِيهِمْ ... كَتِيبَتُهُ
تَعَرّضُ لِلضّرَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " تُعَفّرُ
بِالتّرَابِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ شِعْرُ ابْنِ عُفَيّفٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ ]
فَأَجَابَهُ عَطِيّةُ بْنُ عُفَيّفٍ النّصْرِيّ فِيمَا
حَدّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ [ ص 461 ]
أَفَاخِرَةٌ رِفَاعَةُ فِي حُنَيْنٍ ... وَعَبّاسُ بْنُ
رَاضِعَةِ اللّجَابِ
فَانّكَ وَالْفِجَارَ كَذَاتِ مِرْطٍ ... لِرَبّتِهَا
وَتَرْفُلُ فِي الْإِهَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَطِيّةُ بْنُ عُفَيّفٍ
هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَمّا أَكْثَرَ عَبّاسٌ عَلَى هَوَازِنَ فِي يَوْمِ
حُنَيْنٍ . وَرِفَاعَةُ مِنْ جُهَيْنَةَ
.
[ شِعْرٌ آخَرُ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ
أَيْضًا :
يَا خَاتَمُ النّبَآءِ إنّكَ مُرْسَلٌ ... بِالْحَقّ
كُلّ ، هُدَى السّبِيلِ هُدَاكَا
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ
وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
ثُمّ الّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتَهُمْ ... جُنْدٌ
بَعَثْتَ عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السّلَاحِ كَأَنّهُ ... لَمّا
تَكَنّفَهُ الْعَدُوّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنّمَا ...
يَبْغِي رِضَا الرّحْمَنِ ثُمّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنّي قَدْ رَأَيْتُ مَكَرّهُ ... تَحْتَ
الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي
الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتّاكَا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكُمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ
الّذِي عَايَنْتُ كَانَ شِفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا
وَطَعْنًا فِي الْعَدُوّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنّهُمْ ... أُسْدُ
الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنْ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إلّا
لِطَاعَةِ رَبّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً
وَوَلِيّنَا مَوْلَاكَا
وَقَالَ
عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 462 ]
إمّا تَرَيْ يَا أُمّ فَرْوَةَ خَيْلَنَا ... مِنْهَا
مُعَطّلَةٌ تُقَادُ وظُلّعُ
أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا ... فِيهَا
نَوَافِذُ مِنْ جِرَاحٍ تَنْبَعُ
فَلَرُبّ قَائِلَةٍ كَفَاهَا وَقْعُنَا ... أَزْمَ
الْحُرُوبِ فَسِرْبُهَا لَا يُفْزَعُ
لَا وَفْدَ كَالْوَفْدِ الْأُلَى عَقَدُوا لَنَا ...
سَبَبًا بِحَبْلِ مُحَمّدٍ لَا يُقْطَعُ
وَفْدٌ أَبُو قَطَنٍ حُزَابَةُ مِنْهُمْ ... وَ أَبُو
الْغُيُوثِ وَوَاسِعٌ وَالْمِقْنَعُ
وَالْقَائِدُ الْمِئَةُ الّتِي وَفّى بِهَا ... تِسْعَ
الْمِئِينَ فَتَمّ أَلْفٌ أَقْرَعُ
جَمَعَتْ بَنُو عَوْفٍ وَرَهْطُ مُخَاشِنٍ ... سِتّا
وَأَحْلُبُ مِنْ خُفَافٍ أَرْبَعُ
فَهُنَاكَ إذْ نُصِرَ النّبِيّ بِأَلْفِنَا ... عَقَدَ
النّبِيّ لَنَا لِوَاءً يَلْمَعُ
ر فُزْنَا بِرَايَتِهِ وَأَوْرَثَ عَقْدُهُ ... مَجْدَ
الْحَيَاةِ وسُودَدًا لَا يُنْزَعُ
وَغَدَاةَ نَحْنُ مَعَ النّبِيّ جَنَاحُهُ ... بِبِطَاحِ
مَكّةَ وَالْقَنَا يَتَهَزّعُ
كَانَتْ إجَابَتُنَا لِدَاعِي رَبّنَا ... بِالْحَقّ
مِنّا حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخَيّرَ سَرْدَهَا ... دَاوُدُ إذْ
نَسَجَ الْحَدِيدَ وَتُبّعُ
وَلَنَا عَلَى بِئْرَيْ حُنَيْنٍ مَوْكِبٌ ... دَمَغَ
النّفَاقَ وَهَضْبَةٌ مَا تُقْلَعُ
نُصِرَ النّبِيّ بِنَا وَكُنّا ... مَعْشَرًا فِي كُلّ
نَائِبَةٍ نَضُرّ وَنَنْفَعُ
ذُدْنَا غَدَاتَئِذٍ هَوَازِنَ بِالْقَنَا ...
وَالْخَيْلُ يَغْمُرُهَا عَجَاجٌ يَسْطَعُ
إذْ خَافَ حَدّهُمْ النّبِيّ وَأَسْنَدُوا ... جَمْعًا
تَكَادُ الشّمْسُ مِنْهُ تَخْشَعُ
تُدْعَى بَنُو جُشَمٍ وَتُدْعَى وَسْطَهُ ... أَفْنَاءُ
نَصْرٍ وَالْأَسِنّةُ شُرّعُ
حَتّى إذَا قَالَ الرّسُولُ مُحَمّدٌ ... أَبَنِي
سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْفَعُوا
رُحْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَجْحَفَ بَأْسُهُمْ ...
بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَزُوا ماَ جَمّعُوا
[ ص 463 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَا
أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلّ عَيْشِنَا ... رَخِيّ
وَصَرْفُ الدّارِ لِلْحَيّ جَامِعُ
حُبَيّبَةٌ أَلْوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النّوَى ...
لِبَيْنِ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنْ تَبْتَغِي الْكُفّارَ غَيْرَ مَلُومَةٍ ...
فَإِنّي وَزِيرٌ لِلنّبِيّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمْتُهُمْ ...
خُزَيمَةُ وَالْمَرّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفِ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ ...
لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنّمَا ... يَدَ
اللّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيّ مَكّةَ عَنْوَةً ...
بِأَسْيَافِنَا وَالنّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَدَنِيّةً وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ
وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إلَيْنَا
وَضَاقَتْ بِالنّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضّحّاكِ لَا يَسْتَفِزّنَا ... قِرَاعُ
الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللّهِ يَخْفِقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ
كَخُذْرُوفِ السّحَابَةِ لَامِعُ
عَشِيّةَ ضَحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ
رَسُولِ اللّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ...
مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ
فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ
لِأَمْرٍ حَمّهُ اللّهُ دَافِعُ
[ ص 464
]
وَقَالَ
عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ [ ص 465 ]
تَقَطّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمّ مُؤَمّلٍ ... بِعَاقِبَةِ
وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ...
فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا
خُفَافِيّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ...
وَتَحْتَلّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فَإِنْ تَتْبَعْ الْكُفّارَ أُمّ مُؤَمّلٍ ... فَقَدْ
زَوّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغْفَا
وَسَوْفَ يُنَبّيهَا الْخَبِيرُ بِأَنّنَا ... أَبَيْنَا
وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبّنَا حِلْفَا
وَأَنّا مَعَ الْهَادِي النّبِيّ مُحَمّدٍ ... وَفَيْنَا
وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزّةٍ ...
أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفَا
خُفَافٌ وذَكْوَانٌ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبَ
زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنّ النّسِيجَ الشُهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ...
أُسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزّ دِينُ اللّهِ غَيْرَ تَنَحّلٍ ... وَزِدْنَا
عَلَى الْحَيّ الّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكّةَ إذْ جِئْنَا كَأَنّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ
أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسِبُ بَيْنَهَا ... إذَا
هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ...
لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الْقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا
زَجْمَةٌ إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا
بِبِيضٍ نُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرّهَا ...
وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
فَكَائِنْ تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحّبٍ ...
وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النّاسِ نَبْتَغِي ...
وَلِلّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
[ ص 466 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاس ٍ أَيْضًا :
مَا بَالُ عَيْنِكَ فِيهَا عَائِرٌ سَهِرٌ ... مِثْلُ
الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ...
فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنّهُ نَظْمُ دُرّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطّعُ
السّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ مُئْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدّتَهُ ... وَمَنْ
أَتَى دُونَهُ الصّمّانُ فَالْحَفَرُ
دَعْ مَا تَقَدّمَ مِنْ عَهْدِ الشّبَابِ فَقَدْ ...
وَلّى الشّبَابُ وَزَارَ الشّيْبُ وَالزّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي
سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرّحْمَنَ وَاتّبَعُوا ... دِينَ
الرّسُولِ وَأَمْرُ النّاسِ مُشْتَجِرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النّخْلِ وَسْطَهُمْ ... وَلَا
تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمْ الْبَقَرُ
إلّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرَبَةً ... فِي
دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعَكَرُ
تُدْعَى خُفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيّ
ذَكْوَانَ لَا مِيلٌ وَلَا ضُجُرُ
الضّارِبُونَ جُنُودَ الشّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ
مَكّةَ وَالْأَرْوَاحُ تَبْتَدِرُ
حَتّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنّهُمْ ... نَخْلٌ
بِظَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ...
لِلدّينِ عِزّا وَعِنْدَ اللّهِ مُدّخَرُ
إذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرّا بَطَائِنُهُ ...
وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللّوَاءِ مَعَ الضّحّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا
مَشَى اللّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ...
تَكَادُ تَأْفِلُ مِنْهُ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنّتَنَا ... لِلّهِ
نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتّى تَأَوّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا
الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرًا قَلّوا وَلَا كَثُرُوا ... إلّا
قَدَ اصْبَحَ مِنّا فِيهِمْ أَثَرُ
[ ص 464
]
[ ص 468 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
يَأَيّهَا الرّجُلُ الّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاءُ
مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إمّا أَتَيْتَ عَلَى النّبِيّ فَقُلْ لَهُ ... حَقّا
عَلْيَكَ إذَا اطْمَأَنّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيّ وَمَنْ مَشَى ...
فَوْقَ التّرَابِ إذَا تُعَدّ الْأَنْفُسُ
إنّا وَفَيْنَا بِاَلّذِي عَاهَدْتَنَا ... وَالْخَيْلُ
تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إذَا سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلّهَا ... جَمْعٌ
تَظَلّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجُسُ
حَتّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ
يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ...
بَيْضَاءُ مُحْكَمَةُ الدّخَالِ وَقَوْنَسُ
يُرْوِي الْقَنَاةَ إذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ...
وَتَخَالُهُ أَسَدًا إذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفّهِ ... عَضْبٌ
يَقُدّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ
أُمِدّ بِهِ الرّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ...
وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمُسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ...
وَاَللّهُ لَيْسَ بِضَائِعِ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِىَ
الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدّةً ... كَفَتْ
الْعَدُوّ وَقِيلَ مِنْهَا : يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنُ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ
تَمُدّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنّهُ ... عَيْرٌ
تَعَاقَبَهُ السّبَاعُ مُفَرّسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ
قَوْلَهُ " وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا .
[ ص 469 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
نَصَرْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ غَضَبٍ لَهُ ... بِأَلْفِ
كَمِيّ لَا تُعَدّ حَوَاسِرُهْ
حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً ...
يَذُودُ بِهَا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ نَاصِرُهْ
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهَا دَمًا فَهْوَ لَوْنُهَا ...
غَدَاةَ حُنَيْنٍ يَوْمَ صَفْوَانُ شَاجِرُهْ
وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ مَيْمَنَةً لَهُ ... وَكَانَ
لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
وَكُنّا لَهُ دُونَ الْجُنُودِ بِطَانَةً ...
يُشَاوِرُنَا فِي أَمْرِهِ وَنُشَاوِرُهْ
دَعَانَا فَسَمّانَا الشّعَارَ مُقَدّمًا ... وَكُنّا
لَهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يُنَاكِرُهْ
جَزَى اللّهُ خَيْرًا مِنْ نَبِيّ مُحَمّدًا ...
وَأَيّدَهُ بِالنّصْرِ وَاَللّهُ نَاصِرُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي مِنْ قَوْلِهِ "
وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ "
إلَى آخِرِهَا ، بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ
وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَيْتَ الّذِي أَوّلُهُ " حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ
الرّمْحِ رَايَةً " وَأَنْشَدَنِي بَعْدَ قَوْلِهِ " وَكَانَ لَنَا عَقْدُ
اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ " ، " وَنَحْنُ خَضَبْنَاهُ دَمًا فَهُوَ
لَوْنُهُ " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
مَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولَ
الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمّمَا
دَعَا رَبّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللّهَ وَحْدَهُ ...
فَأَصْبَحَ قَدْ وَفّى إلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قُدَيْدًا مُحَمّدًا ... يَؤُمّ
بِنَا أَمْرًا مِنْ اللّهِ مُحْكَمَا
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتّى تَبَيّنُوا ...
مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وَغَابًا مُقَوّمًا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ...
وَرَجْلًا كَدُفّاعِ الْأَتِيّ عَرَمْرَمَا
فَإِنّ سَرَاةَ الْحَيّ إنْ كُنْتَ سَائِلًا ...
سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ مَنْ تَسَلّمَا
وَجُنْدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ...
أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْتَ فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ...
وَقَدّمْتَهُ فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ
بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْتُ يَمِينًا بَرّةً لِمُحَمّدٍ ...
فَأَكْمَلْتُهَا أَلْفًا مِنْ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدّمُوا ... وَحُبّ
إلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدّمَا
وَبِتْنَا بِنَهْيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ...
بِنَا الْخَوْفُ إلّا رَغْبَةً وَ تَحَزّمَا
أَطَعْنَاكَ حَتّى أَسْلَمَ النّاسُ كُلّهُمْ ...
وَحَتّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطَهُ ...
وَلَا يَطْمَئِنّ الشّيْخُ حَتّى يُسَوّمَا
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفّهُ ... ضُحَى
وَكُلّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدَ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةً حَتّى تَرَكْنَا عَشِيّةً ... حُنَيْنًا
وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إذَا شِئْتَ مِنْ كُلّ رَأَيْتَ طِمِرّةً ...
وَفَارِسَهَا يَهْوِى وَرُمْحًا مُحَطّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنّا هَوَازِنُ سَرْبَهَا ... وَحُبّ
إلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
[ شِعْرُ ضَمْضَمٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
يَقَظَةَ بْنِ عُصَيّةَ السّلَمِيّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ
أَصَابَتْ كِنَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الشّرِيدِ ، فَقَتَلَ بِهِ مِحْجَنًا
وَابْنَ عَمّ لَهُ وَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ : [ ص 470 ] [ ص 471 ]
نَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ غَيْرِ مَجْلَبٍ ...
إلَى جُرَشٍ مِنْ أَهْلِ زَيّانَ وَالْفَمِ
نُقَتّلُ أَشْبَالَ الْأُسُودِ وَنَبْتَغِي ...
طَوَاغِيَ كَانَتْ قَبْلَنَا لَمْ تُهَدّمْ
فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الشّرِيدِ فَإِنّنِي ...
تَرَكْتُ بِوَجّ مَأْتَمًا بَعْدَ مَأْتَمِ
أَبَأْتُهُمَا بِابْنِ الشّرِيدِ وَغَرّهُ ...
جِوَارُكُمْ وَكَانَ غَيْرَ مُذَمّمِ
تُصِيبُ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ رِمَاحُنَا ...
وَأَسْيَافُنَا يَكْلِمْنَهُمْ كُلّ مَكْلَمِ
وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا :
أَبْلِغْ لَدَيْكَ ذَوِي الْحَلَائِلِ آيَةً ... لَا
تَأْمَنَنّ الدّهْرَ ذَاتَ خِمَارِ
بَعْدَ الّتِي قَالَتْ لِجَارَةِ بَيْتِهَا ... قَدْ
كُنْتُ لَوْ لَبِثَ الْغَزِيّ بِدَارِ
لَمّا رَأَتْ رَجُلًا تَسَفّعَ لَوْنَهُ ... وَغْرُ
الْمَصِيفَةِ وَالْعِظَامُ عَوَارِي
مُشُطَ الْعِظَامِ تَرَاهُ آخِرَ لَيْلِهِ ...
مُتَسَرْبِلًا فِي دِرْعِهِ لِغِوَارِ
إذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ نَهْدَةٍ ... جَرْدَاءَ
تُلْحِقُ بِالنّجَادِ إزَارِي
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ
مُجَاهِدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
وَزُهَاءَ كُلّ خَمِيلَةٍ أَزْهَقْتهَا ... مَهَلًا
تَمَهّلُهُ وَكُلّ خَبَارِ
كَيْمَا أُغَيّرَ مَا بِهَا مِنْ حَاجَةٍ ... وَتَوَدّ
أَنّي لَا أَؤُوبُ فَجَارِ
[ شِعْرُ أَبِي خِرَاشٍ فِي رِثَاءِ ابْنِ الْعَجْوَةِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 472 ] عُبَيْدَةَ قَالَ أُسِرَ
زُهَيْرُ بْنُ الْعَجْوَةِ الْهُذَلِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَكُتّفَ فَرَآهُ جَمِيلُ
بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ ، فَقَالَ لَهُ أَأَنْتَ الْمَاشِي لَنَا بِالْمَغَايِظِ
؟ فَضَرَبَ عُنُقَهُ ؟ فَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ يَرْثِيهِ وَكَانَ ابْنَ
عَمّهِ [ ص 473 ]
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي
فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
طَوِيلِ نِجَادِ السّيْفِ لَيْسَ بِجَيْدَرٍ ... إذَا
اهْتَزّ وَاسْتَرْخَتْ عَلَيْهِ الْحَمَائِلُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلِمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ
لَمّا أَذْلَقَتْهُ الشّمَائِلُ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ...
وَمُسْتَنْبِحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
تَرَوّحَ مَقْرُورًا وَهَبّتْ عَشِيّةً ... لَهَا حَدَبٌ
تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ
فَمَا بَالُ أَهْلِ الدّارِ لَمْ يَتَصَدّعُوا ...
وَقَدْ بَانَ مِنْهَا اللّوْذَعِيّ الْحُلَاحِلُ
فَأُقْسِمُ لَوْ لَاقَيْتَهُ غَيْرَ مُوثَقٍ ... لَآبَك
بِالنّعْفِ الضّبَاعُ الْجَيَائِلُ
وَإِنّك لَوْ وَاجَهْته إذْ لَقِيته ... فَنَازَلْته
أَوْ كُنْتَ مِمّنْ يُنَازِلُ
لَظَلّ جَمِيلٌ أَفْحَشَ الْقَوْمِ صِرْعَةً ...
وَلَكِنّ قِرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يَا أُمّ ثَابِتٍ ...
وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرّقَابِ السّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالشّيْخِ لَيْسَ بِفَاعِلِ ... سِوَى
الْحَقّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
وَأَصْبَحَ إخْوَانُ الصّفَاءِ كَأَنّمَا ... أَهَالَ
عَلَيْهِمْ جَانِبَ التّرْبِ هَائِلُ
فَلَا تَحْسَبِي أَنّي نَسِيتُ لَيَالِيَا ... بِمَكّةَ
إذْ لَمْ نَعْدُ عَمّا نُحَاوِلُ
إذْ النّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغِرّةٍ ... وَإِذْ
نَحْنُ لَا تُثْنِي عَلَيْنَا الْمَدَاخِلُ
[ شِعْرُ ابْنِ عَوْفٍ فِي الِاعْتِذَارِ مِنْ فِرَارِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 474 ] وَقَالَ مَالِكُ بْنُ
عَوْفٍ وَهُوَ يَعْتَذِرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِرَارِهِ
مَنَعَ الرّقَادَ فَمَا أُغَمّضُ سَاعَةً ... نَعَمٌ
بِأَجْزَاعِ الطّرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِلْ هَوَازِنَ هَلْ أَضُرّ عَدُوّهَا ... وَأُعِينُ
غَارِمَهَا إذَا مَا يَغْرَمُ
وَكَتِيبَةٍ لَبّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ
مِنْهَا حَاسِرٌ وَمُلَأّمُ
وَمُقَدّمٍ تَعْيَا النّفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدّمْته
وَشُهُودُ قَوْمِي أَعْلَمُ
فَوَرَدْته وَتَرَكْتُ إخْوَانًا لَهُ ... يَرِدُونَ
غَمْرَتَهُ وَغَمْرَتُهُ الدّمُ
فَإِذَا انْجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أَوْرَثْنَنِي ... مَجْدَ
الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمٍ يُقْسَمُ
كَلّفْتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمّدٍ ... وَاَللّهُ
أَعْلَمُ مَنْ أَعَقّ وَأَظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ أُقَاتِلُ وَاحِدًا ...
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيْتُ الْمَجْدَ يَهْدِمُ بَعْضُكُمْ ... لَا
يَسْتَوِي بَانٍ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأَقَبّ مِخْمَاصِ الشّتَاءِ مُسَارِعٍ ... فِي
الْمَجْدِ يَنْمِي لِلْعُلَى مُتَكَرّمُ
أَكْرَهْتُ فِيهِ أَلّةً يَزَنِيّةً ... سَحْمَاءَ
يَقْدُمُهَا سِنَانٌ سَلْجَمُ
وَتَرَكْت حَنّتَهُ تَرُدّ وَلِيّهُ ... وَتَقُولُ
لَيْسَ عَلَى فُلَانَةَ مَقْدَمُ
وَنَصَبْتُ نَفْسِي لِلرّمَاحِ مُدَجّجًا ... مِثْلَ
الدّرِيّةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ
[ شِعْرٌ لِهَوَازِنِيّ يَذْكُرُ إسْلَامَ قَوْمِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 475 ] وَقَالَ قَائِلٌ فِي
هَوَازِنَ أَيْضًا ، يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ
أَذْكُرْ مَسِيرَهُمْ لِلنّاسِ إذْ جَمَعُوا ...
وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرّايَاتُ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكُ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ
حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتّى لَقُوا الْبَاسَ حِينَ الْبَاسُ يَقْدُمُهُمْ ...
عَلَيْهِمْ الْبِيضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدّرَقُ
فَضَارَبُوا النّاسَ حَتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ...
حَوْلَ النّبِيّ وَحَتّى جَنّهُ الْغَسَقُ
ثُمّتَ نُزّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمْ ... مِنْ
السّمَاءِ فَمَهْزُومٌ وَمُعْتَنَقُ
مِنّا وَلَوْ غَيْرُ جِبْرِيلِ يُقَاتِلُنَا ...
لَمَنّعَتْنَا إذَنْ أَسْيَافُنَا الْعُتُقُ
وَفَاتَنَا عُمَرُ الْفَارُوقُ إذْ هُزِمُوا ...
بِطَعْنَةٍ بَلّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعَلَقُ
[ ص 476
]
[ شِعْرُ جُشَمِيّةٍ فِي رِثَاءِ أَخَوَيْهَا ]
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ تَرْثِي
أَخَوَيْنِ لَهَا أُصِيبَا يَوْمَ حُنَيْنٍ :
أَعَيْنَيّ جُودَا عَلَى مَالِكٍ ... مَعًا وَالْعَلَاءِ
وَلَا تَجْمُدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا
هَبّةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مُجْسَدٍ ... يَنُوءُ نَزِيفًا
وَمَا وُسّدَا
[ شِعْرُ أَبِي ثَوَابٍ فِي هِجَاءِ قُرَيْشٍ ]
وَقَالَ أَبُو ثَوَابٍ زَيْدُ بْنُ صُحَارٍ ، أَحَدُ
بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ :
أَلَا هَلْ أَتَاك أَنْ غَلَبَتْ قُرَيْشٌ ... هَوَازِنَ
وَالْخُطُوبُ لَهَا شُرُوطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... يَجِيءُ مِنْ
الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... كَأَنّ
أُنُوفَنَا فِيهَا سَعُوطُ
فَأَصْبَحْنَا تَسَوّقُنَا قُرَيْشٌ ... سِيَاقَ
الْعِيرِ يَحْدُوهَا النّبِيطُ
فَلَا أَنَا إنْ سُئِلْتُ الْخَسْفَ آبٍ ... وَلَا أَنَا
أَنْ أَلِينَ لَهُمْ نَشِيطُ
سَيُنْقَلُ لَحْمُهَا فِي كُلّ فَجّ ... وَتُكْتَبُ فِي
مَسَامِعِهَا الْقُطُوطُ
وَيُرْوَى "
الْخُطُوطُ " ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي رِوَايَةِ
أَبِي سَعْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبُو ثَوَابٍ زِيَادُ بْنُ
ثَوَابٍ . وَأَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ [ ص 477 ] ابْنِ إسْحَاقَ .
[ شِعْرُ ابْنِ وَهْبٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ أَبِي ثَوَابٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
وَهْبٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أُسَيّدٍ فَقَالَ
بِشَرْطِ اللّهِ نَضْرِبُ مَنْ لَقِينَا ... كَأَفْضَلِ
مَا رَأَيْتَ مِنْ الشّرُوطِ
وَكُنّا يَا هَوَازِنُ حِينَ نَلْقَى ... نَبُلّ
الْهَامَ مِنْ عَلَقٍ عَبِيطِ
بِجَمْعِكُمْ وَجَمْعِ بَنِي قَسِيّ ... نَحُكّ
الْبَرْكَ كَالْوَرَقِ الْخَبِيطِ
أَصَبْنَا مِنْ سَرَاتِكُمْ وَمِلْنَا ... بِقَتْلٍ فِي
الْمُبَايِنِ وَالْخَلِيطِ
بِهِ الْمُلْتَاثُ مُفْتَرِشٌ يَدَيْهِ ... يَمُجّ
الْمَوْتَ كَالْبَكْرِ النّحِيطِ
فَإِنْ تَكُ قَيْسُ عَيْلَانٍ غِضَابًا ... فَلَا
يَنْفَكّ يُرْغِمُهُمْ سَعُوطِي
[ شِعْرُ خَدِيجٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ ]
وَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النّصْرِيّ :
لَمّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا
سَوَادًا مُنْكَرَ اللّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ...
شَمَارِيخَ مِنْ عُزْوَى إذَنْ عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ أَنّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إذَنْ
مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشّفَا
إذَنْ مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمّدٍ ... ثَمَانِينَ
أَلْفًا وَاسْتَمَدّوا بِخِنْدِفَا
ذِكْرُ
غَزْوَةِ الطّائِفِ بَعْدَ حُنَيْنٍ
فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
وَلَمّا [ ص 478 ] ثَقِيفٍ الطّائِفَ أَغْلَقُوا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا ، وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ .
[ الْمُتَخَلّفُونَ عَنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ]
وَلَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ
عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْدَنُ بْنُ سَلَمَةَ كَانَا بِجُرَشَ
يَتَعَلّمَانِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ
[ مَسِيرُ الرّسُولِ إلَى الطّائِفِ وَشِعْرُ كَعْبٍ ]
ثُمّ سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ ؛ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ
مَالِكٍ ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ
إلَى الطّائِفِ : [ ص 479 ] [ ص 480
]
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ
ثُمّ أَجْمَعْنَا السّيُوفَا
نُخَيّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ ...
قَوَاطِعُهُنّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفًا
فَلَسْتُ لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ
دَارِكُمْ مِنْكُمْ أُلُوفَا
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجّ ... وَتُصْبِحُ
دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سَرَعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ
خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمّا
أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ ... يُزِرْنَ
الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ
الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيّةَ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ
الزّحْفِ جَادِيّا مَدُوفَا
أَجِدّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ
الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبّرُهُمْ بِأَنّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ
الْخَيْلِ وَالنّجُبَ الطّرُوفَا
وَأَنّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ
بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النّبِيّ وَكَانَ صُلْبًا ... نَقِيّ
الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ
لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيّنَا وَنُطِيعُ رَبّا ... هُوَ الرّحْمَنُ
كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السّلْمَ نَقْبَلْ ...
وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا
يَكُ أَمْرُنَا رَعِشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى
الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أَأَهْلَكْنَا
التّلَادَ أَمْ الطّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ
الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاء ... فَجَدّعْنَا
الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا
بِكُلّ مُهَنّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... يَسُوقُهُمْ بِهَا
سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتّى ... يَقُومَ
الدّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللّاتُ وَالْعُزّى وَوَدّ ... وَنَسْلُبُهَا
الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرّوا وَاطْمَأَنّوا ... وَمَنْ لَا
يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
[ شِعْرُ كِنَانَةَ فِي الرّدّ عَلَى كَعْبٍ ]
فَأَجَابَهُ [ ص 481 ] عَبْدِ يَالَيْل بْنِ عَمْرِو
بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنّا
بِدَارٍ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ...
وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلُ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ...
فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقّ أَنّنَا ... إذَا
مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوّمُهَا حَتّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفُ
لِلْحَقّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثِ مُحَرّقٍ ... كَلَوْنِ
السّمَاءِ زَيّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفّهُهَا عَنّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ ... إذَا جُرّدَتْ
فِي غَمْرَةٍ لَا نَشيِمُها
[ شِعْرُ شَدّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطّائِفِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ
الْجُشَمِيّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ
: [ ص 482 ]
لَا تَنْصُرُوا اللّاتَ إنّ اللّهَ مُهْلِكُهَا ...
وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إنّ الّتِي حُرّقَتْ بِالسّدّ فَاشْتَعَلَتْ ... وَلَمْ
يُقَاتَلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إنّ الرّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمْ ... يَظْعَنْ
وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ
[الطّرِيقُ إلَى الطّائِفِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيَةِ ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ ،
ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ ، ثُمّ عَلَى بُحْرَةِ الرّغَاءِ مِنْ لِيّةَ ، فَابْتَنَى
بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ
شُعَيْبٍ : أَنّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا
بِدَمِ وَهُوَ أَوّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ
قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَتَلَهُ بِهِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِلِيّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ
ثُمّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا الضّيْقَةُ ، فَلَمّا تَوَجّهَ فِيهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا فَقَالَ مَا
اسْمُ هَذِهِ الطّرِيقِ ؟ فَقِيلَ لَهُ الضّيْقَةُ ، فَقَالَ بَلْ هِيَ الْيُسْرَى
، ثُمّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا
الصّادِرَةُ ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إمّا أَنْ تَخْرُجَ وَإِمّا أَنْ
نُخْرِبَ عَلَيْك حَائِطَك ، فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
بِإِخْرَابِهِ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطّائِفِ ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَذَلِكَ أَنّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ
الطّائِفِ ، فَكَانَتْ النّبْلُ تَنَالُهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ فَلَمّا أُصِيبَ أُولَئِكَ
النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الّذِي
بِالطّائِفِ الْيَوْمَ فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ
إحْدَاهُمَا أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ [ ص 483 ] فَضَرَبَ لَهُمَا قُبّتَيْنِ ثُمّ
صَلّى بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ . ثُمّ أَقَامَ فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى
مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ
بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ
الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا
يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ إلّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَتَرَامَوْا
بِالنّبْلِ .
[الرّسُولُ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ . حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ
بِالْمَنْجَنِيقِ رَمَى أَهْلَ الطّائِفِ .
[ يَوْمُ الشّدْخَةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ الشّدْخَةِ
عِنْدَ جِدَارِ الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطّائِفِ
لِيَخْرِقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً
بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ
فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ، فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ .
[ الْمُفَاوَضَةُ مَعَ ثَقِيفٍ ]
وَتَقَدّمَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ
بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطّائِفِ ، فَنَادَ يَا ثَقِيفًا : أَنْ أَمّنُونَا حَتّى
نُكَلّمَكُمْ فَأَمّنُوهُمَا ، فَدَعَوْا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ
وَبَنِيّ كِنَانَةَ لِيَخْرُجْنَ إلَيْهِمَا ، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنّ السّبَاءَ
فَأَبَيْنَ مِنْهُنّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ
مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ أُمّ دَاوُدَ
مَيْمُونَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرّةَ بْنِ
عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرّةَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ ، لَهَا عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ قَارِبٍ [ ص 484 ] وَالْفُقَيْمِيّةُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النّاسِي
أُمَيّةَ بْنِ قَلْعٍ فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ لَهُمَا ابْنُ
الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ أَلَا
أَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ
مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّائِفِ ، نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ
الْعَقِيقُ ، إنّهُ لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً وَلَا أَشَدّ
مُؤْنَةً وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً مِنْ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَإِنّ مُحَمّدًا
إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعْمَرْ أَبَدًا ، فَكَلّمَاهُ فَلْيَأْخُذْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدَعْهُ
لِلّهِ وَالرّحِمِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا
يُجْهَلُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرَكَهُ
لَهُمْ
[ رُؤْيَا الرّسُولِ وَتَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لَهَا ]
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا يَا
أَبَا بَكْرٍ إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قَعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زُبْدًا ، فَنَقَرَهَا
دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ
مِنْهُمْ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ
[ ارْتِحَالُ الْمُسْلِمِينَ وَسَبَبُ ذَلِكَ ]
ثُمّ إنّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةَ وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ قَالَتْ يَا
رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك الطّائِفَ حُلِيّ بَادِيَةَ بِنْتِ
غَيْلَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ
وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ . فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي
ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ ؟ فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ
الْخَطّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
( يَا رَسُولَ اللّه ) : مَا حَدِيثٌ حَدّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنّك
قُلْته ؟ قَالَ قَدْ قُلْته ؟ قَالَ أَوَمَا أُذِنَ لَك فِيهِمْ يَا رَسُولَ
اللّهِ ؟ قَالَ لَا . قَالَ أَفَلَا أُؤَذّنُ بِالرّحِيلِ ؟ قَالَ بَلَى قَالَ فَأَذّنَ
عُمَرُ بِالرّحِيلِ
[ عُيَيْنَةُ وَمَا كَانَ يُخْفِي مِنْ نِيّتِه ِ ]
فَلَمّا [
ص 485 ] سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي
عَمْرِو بْن عِلَاجٍ أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ . قَالَ يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ
أَجَلْ وَاَللّهِ مَجَدَةً كِرَامًا ؛ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَاتَلَك اللّهُ يَا عُيَيْنَةُ أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي وَاَللّهِ مَا جِئْت لِأُقَاتِلَ
ثَقِيفًا مَعَكُمْ وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ مُحَمّدٌ الطّائِفَ فَأُصِيبَ
مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتّطِئُهَا لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا ، فَإِنّ ثَقِيفًا
قَوْمٌ مَنَاكِيرُ . وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطّائِفِ عَبِيدٌ ،
فَأَسْلَمُوا ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ عُتَقَاءُ ثَقِيفٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُكَدّمٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، قَالُوا : لَمّا
أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ تَكَلّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا ، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ ،
وَكَانَ مِمّنْ تَكَلّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ
نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ
.
[ إطْلَاقُ أُبَيّ بْنِ مَالِكٍ مِنْ يَدِ مَرْوَانَ وَشِعْرُ الضّحّاكِ فِي
ذَلِكَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ
أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدّوْسِيّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ ،
وَظَاهَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ثَقِيفٍ ،
فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ ، وَهُوَ الّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنّهَا مِنْ قَيْسٍ :
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ
قَيْسٍ : خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِك
أَوّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ فَلَقِيَ أُبَيّ
بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيّ ، فَأَخَذَهُ حَتّى يُؤَدّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَامَ
فِي ذَلِكَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَلّمَ ثَقِيفًا حَتّى
أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ
الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيّ بْنِ مَالِكٍ
[ ص 486 ]
أَتَنْسَى بَلَائِي يَا أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ ... غَدَاةَ
الرّسُولُ مُعْرِضٌ عَنْك أَشْوَسُ
يَقُودُك مَرْوَانُ بْنُ قَيْسٍ بِحَبْلِهِ ... ذَلِيلًا
كَمَا قِيدَ الذّلُولُ الْمُخَيّسُ
فَعَادَتْ عَلَيْكَ مِنْ ثَقِيفٍ عِصَابَةٌ ... مَتَى
يَأْتِهِمْ مُستَقْبِسُ الشّرّ يُقْبِسُوا
فَكَانُوا هُمْ الْمَوْلَى فَعَادَتْ حُلُومُهُمْ ...
عَلَيْك وَقَدْ كَادَتْ بِك النّفْسُ تَيْأَسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " يُقْبِسُوا " عَنْ
غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الطّائِفِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ
اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَ الطّائِفِ . مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ
عَبْدِ شَمْسٍ : سَعِيدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَعُرْفُطَةُ
بْنُ جَنّابٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْأُسْدِ بْنِ الْغَوْثِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُبَابٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ ، رُمِيَ بِسَهْمِ فَمَاتَ مِنْهُ
بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ
رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ
.
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ
عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ .
وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو : السّائِبُ بْنُ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ .
وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ . وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ : مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ثَابِتُ بْنُ
الْجَذَعِ .
[ ص 487 ] بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ الْحَارِثُ بْنُ
سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ .
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ .
وَمِنْ الْأَوْسِ : رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ . فَجَمِيعُ مَنْ
اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ
، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ .
[ شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ]
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ قَالُ بُجَيْرُ بْنُ
زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ :
كَانَتْ عُلَالَةَ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ
أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءِ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ...
فَتَبَدّدُوا كَالطّائِرِ الْمُتَمَزّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إلّا
جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ...
فَتَحَصّنُوا مِنّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدّ حَسْرَانًا إلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ
تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٍ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا
لَظَلّ كَأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ
مَشْيَ الضّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنّنَا ... قُدْرٌ
تَفَرّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي
فِي كُلّ سَابِغَةٍ إذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ ...
كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
جُدُلٌ تَمَسّ ، فُضُولُهُنّ نِعَالَنَا ... مِنْ نَسْجِ
دَاوُدٍ وَآلِ مُحَرّقِ
أَمْرُ
أَمْوَالِ هَوَازِنَ وَسَبَايَاهَا وَعَطَايَا الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْهَا
وَإِنْعَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِيهَا
ثُمّ [
ص 488 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا حَتّى نَزَلَ
الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ
كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ . يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ
اللّهِ اُدْعُ عَلَيْهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ .
[ مَنّ الرّسُولِ عَلَى هَوَازِنَ ]
ثُمّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَكَانَ
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتّةُ
آلَافٍ مِنْ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ وَمِنْ الْإِبِلِ وَالشّاءِ مَا لَا يُدْرَى
مَا عِدّتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ
أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو : أَنّ وَفْدَ هَوَازِنَ أَتَوْا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَسْلَمُوا ، فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ
مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا ، مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ
وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ
لَهُ زُهَيْرٌ يُكْنَى أَبَا صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِي
الْحَظَائِرِ عَمّاتُك [ ص 489 ] كُنّ يَكْفُلْنَك ، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ
بْنِ أَبِي شِمْرٍ ، أَوْ لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ثُمّ نَزَلَ مِنّا بِمِثْلِ
الّذِي نَزَلْت بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ عَلَيْنَا ، وَأَنْتَ
خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى وَلَوْ أَنّا
مَالَحْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شِمْرٍ ، أَوْ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ،
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ
إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتَنَا بَيْنَ
أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا ، بَلْ تَرُدّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ،
فَهُوَ أَحَبّ إلَيْنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ
الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ
فَقُومُوا فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ
وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ،
فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ الظّهْرَ قَامُوا فَتَكَلّمُوا
بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ
: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو
تَمِيمٍ فَلَا . وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمَا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ
فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا .
فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : بَلَى ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ يَقُولُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ
وَهّنْتُمُونِي . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا
مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ [ ص 490 ] فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ
أُصِيبُهُ فَرَدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ : أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ
بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا
زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنِهِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ بَعَثْتُ بِهَا إلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ
لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا ، وَيُهَيّئُوهَا ، حَتّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ
آتِيَهُمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إذَا رَجَعْت إلَيْهَا . قَالَ
فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْتُ فَإِذَا النّاسُ يَشْتَدّونَ فَقُلْت :
مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : رَدّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَقُلْت : تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي
جُمَحٍ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا ، فَذَهَبُوا إلَيْهَا ، فَأَخَذُوهَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ
عَجَائِزِ هَوَازِنَ ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا : أَرَى عَجُوزًا إنّي لَأَحْسِبُ لَهَا
فِي الْحَيّ نَسَبًا ، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا . فَلَمّا رَدّ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبَايَا بِسِتّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ
يَرُدّهَا ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبُو صُرَدٍ خُذْهَا عَنْك ، فَوَاَللّهِ مَا
فُوهَا بِبَارِدِ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدِ وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدِ وَلَا
زَوْجُهَا بِوَاجِدِ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدِ فَرَدّهَا بِسِتّ فَرَائِضَ حِينَ
قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ فَزَعَمُوا أَنّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ
بْنَ حَابِسٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ إنّك وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهَا
بَيْضَاءَ غَرِيرَةً وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً .
[ إسْلَامُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ ]
وَقَالَ [
ص 491 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِوَفْدِ
هَوَازِ نَ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ ؟ فَقَالُوا :
هُوَ بِالطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ
وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِئَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأَتَى مَالِكٌ بِذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ
مِنْ الطّائِفِ . وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ
يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ مَا
قَالَ فَيَحْبِسُوهُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيّئَتْ لَهُ وَأَمَرَ بِفَرَسِ
لَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطّائِفِ ، فَخَرَجَ لَيْلًا ، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ
فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ
فَرَكِبَهَا ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكّةَ فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ
مِئَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ
عَوْفٍ حِينَ أَسْلَمَ :
مَا إنْ رَأَيْتُ وَلَا سَمِعْتُ بِمِثْلِهِ ... فِي
النّاسِ كُلّهِمْ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ ...
وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْكَ عَمّا فِي غَدِ
وَإِذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابُهَا ...
بِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ
خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ ثُمَالَةُ
وَسَلِمَةُ وَفَهْمٌ فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا ، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ
سَرْحٌ إلّا أَغَارَ عَلَيْهِ حَتّى ضَيّقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَبُو مِحْجَنِ
بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِي :
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا
بَنُو سَلِمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ
وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنّا أُولِي
نَقِمَهْ
[ قَسْمُ الْفَيْءِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 492 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ رَدّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إلَى أَهْلِهَا ، رَكِبَ وَاتّبَعَهُ
النّاسُ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئًا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ
حَتّى أَلْجَئُوهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتَطَفَتْ عَنْهُ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَدّوا
عَلَيّ رِدَائِي أَيّهَا النّاسُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ
شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ثُمّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا
وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذّابًا ، ثُمّ قَامَ إلَى جَنْبِ بَعِيرٍ فَأَخَذَ
وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمّ رَفَعَهَا ، ثُمّ
قَالَ أَيّهَا النّاسُ وَاَللّهِ مَالِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةُ
إلّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ . فَأَدّوا الْخِيَاطَ
وَالْمِخْيَطَ فَإِنّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا
وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ
بِكُبّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعَرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذْت هَذِهِ
الْكُبّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرَ فَقَالَ أَمّا نَصِيبِي
مِنْهَا فَلَك قَالَ أَمّا إذْ بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، ثُمّ
طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ،
عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى
امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ
دَمًا ، فَقَالَتْ إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّك قَدْ قَاتَلْت ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ
غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ دُونَكِ هَذِهِ الْإِبْرَةَ تَخِيطِينَ بِهَا
ثِيَابَك ، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا ، فَسَمِعَ مُنَادِيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَلْيَرُدّهُ حَتّى
الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ . فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ مَا أَرَى إبْرَتَكِ إلّا
قَدْ ذَهَبَتْ فَأَخَذَهَا ، فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ
[ عَطَاءُ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ
أَشْرَافِ النّاسِ يَتَأَلّفُهُمْ وَيَتَأَلّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ فَأَعْطَى أَبَا
سُفْيَانَ [ ص 493 ] حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْحَارِثَ
بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ مِئَةَ بَعِيرٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَصِيرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُ اسْمُهُ الْحَارِثَ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ
عَمْرٍو مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي
قَيْسٍ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ حَلِيفَ
بَنِي زُهْرَةَ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ بَدْرٍ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ
مِئَةَ بَعِيرٍ . وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّصْرِيّ مِئَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى
صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِئَةَ بَعِيرٍ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ
وَأَعْطَى دُونَ الْمِئَةِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ
نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ
عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، لَا أَحْفَظُ مَا أَعْطَاهُمْ وَقَدْ
عَرَفْت أَنّهَا دُونَ الْمِئَةِ وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنَ
عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى
السّهْمِيّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ
.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ عَدِيّ بْنُ قَيْسٍ .
[ شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ يَسْتَقِلّ مَا أَخَذَ وَإِرْضَاءُ الرّسُولِ لَهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى عَبّاسَ بْنَ
مِرْدَاسٍ أَبَاعِرَ فَسَخِطَهَا ، فَعَاتَبَ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يُعَاتِبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا ... بِكَرّي عَلَى
الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمَ أَنْ يَرْقُدُوا ... إذَا هَجَعَ
النّاسُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ
عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ
أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
إلّا أَفَائِلَ أُعْطِيتُهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ
شَيْخِي فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئِ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعْ
الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
[ ص 494 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي يُونُسُ
النّحْوِيّ :
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ
مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا عَنّي لِسَانَهُ ،
فَأَعْطَوْهُ حَتّى رَضِيَ فَكَانَ ذَلِك قَطْعَ لِسَانِهِ الّذِي أَمَرَ بِهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَتَى رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْتَ الْقَائِلُ " فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ
الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ " ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ
عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
هُمَا وَاحِدٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَشْهَدُ أَنّك كَمَا قَالَ اللّهُ { وَمَا
عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ }
[ تَوْزِيعُ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ عَلَى الْمُبَايِعِينَ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي ، مَنْ أَثِقُ بِهِ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ
بَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ
فَأَعْطَاهُمْ يَوْمَ الْجِعْرَانَةِ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ . مِنْ بَنِي
أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ،
وَطَلِيقُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي
الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ . [ ص 495
] بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : شَيْبَةُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الدّارِ وَأَبُو السّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْلَةَ بْنِ السّبّاقِ
بْنِ عَبْدِ الدّارِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ،
وَخَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مُطِيعُ
بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ
غَانِمٍ .
وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو : صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ
بْنِ خَلَفٍ ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ
بْنِ خَلَفٍ .
وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ عَدِيّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ .
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : حُوَيْطِبُ بْنُ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حُبَيّبٍ . وَمِنْ أَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ مِنْ
بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عُرْوَةَ بْنِ صَخْرِ بْنِ رَزْنِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ
الدّيلِ .
وَمِنْ بَنِي قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ
عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ
كِلَابٍ وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ .
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : خَالِدُ بْنُ
هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ
بْنِ صَعْصَعَةَ وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو . وَمِنْ
بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ .
وَمِنْ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ عَبّاسُ بْنُ
مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ : أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ
سُلَيْمٍ . وَمِنْ بَنِي غَطَفَانَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ
حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ .
[ ص 496 ] بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ مِنْ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِم .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ
: أَنّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ
بْنَ حَابِسٍ مِئَةً مِئَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ
بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ كُلّهُمْ
مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَلَكِنّي
تَأَلّفْتهمَا لِيُسْلِمَا ، وَوَكَلْتُ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ .
[ اعْتِرَاضُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، عَنْ مِقْسَمِ أَبِي الْقَاسِمِ
مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، قَالَ خَرَجْت أَنَا
وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللّيْثِيّ ، حَتّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ فَقُلْنَا
لَهُ هَلْ حَضَرْتَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ كَلّمَهُ
التّمِيمِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟ قَالَ نَعَمْ جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النّاسَ
فَقَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ رَأَيْتُ مَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَلْ فَكَيْفَ رَأَيْت ؟ فَقَالَ لَمْ
أَرَك عَدَلْت ؟ قَالَ فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ
وَيْحَك إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ فَقَالَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ لَا ،
دَعْهُ فَإِنّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمّقُونَ فِي الدّينِ حَتّى
يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ يُنْظَرُ فِي النّصْلِ
فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْفِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْفُوقِ
فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ [ ص 497 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي
عُبَيْدَةَ وَسَمّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ .
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي حِرْمَانِ الْأَنْصَارِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ ،
وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا ، قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَاتِبُهُ فِي
ذَلِكَ
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرُ ... سَحّا
إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دَرِرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ ... هَيْفَاءُ
لَا دَنَسٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا ... نَزْرًا
وَشَرّ وِصَالِ الْوَاصِلِ النّزِرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ...
لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهْي نَازِحَةٌ ... قُدّامَ
قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ ... دِينَ
الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا ...
لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا ... إلّا
السّيُوفَ وَأَطْرَافَ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... وَلَا
نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا ... وَنَحْنُ
حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا ... أَهْلَ
النّفَاقِ وَفِينَا يُنْزَلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ ... إذْ
حَزّبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنِيّنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبَرُوا ... مِنّا
عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا
.
[ وَجَدَ الْأَنْصَارُ لِحِرْمَانِهِمْ فَاسْتَرْضَاهُمْ الرّسُولُ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 498 ] قَالَ حَدّثَنَا ابْنُ
إسْحَاقَ : قَالَ وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ
مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، . عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ . قَالَ لَمّا أَعْطَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا
، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا
شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ ؟ حَتّى كَثُرَتْ
مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ
اللّهِ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي
أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ [ ص 499 ] الْعَرَبِ ، وَلَمْ
يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ
مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي .
قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ . قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ
فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ . قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ . فَلَمّا
اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ
الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ : مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ
فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهَدَاكُمْ اللّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ
اللّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ
وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ . ثُمّ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ
الْأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ
وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ .
قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَللّهِ
لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك
، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك .
أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ
الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا . وَوَكَلْتُكُمْ إلَى
إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ
بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟
فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ
الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْتُ
شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ
. وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ . قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا
لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا ، وَحَظّا . ثُمّ
انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا [ ص 500 ]
عُمْرَةُ
الرّسُولِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ
وَاسْتِخْلَافُهُ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ
وَحَجّ عَتّابٌ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا ، وَأَمَرَ
بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنّةَ ، بِنَاحِيَةِ مَرّ الظّهْرَانِ ،
فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ
رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ ، وَاسْتَخْلَفَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ،
وَخَلّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، يُفَقّهُ النّاسَ فِي الدّينِ
وَيُعَلّمُهُمْ الْقُرْآنَ وَاتّبِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ قَالَ لَمّا اسْتَعْمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ رَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ،
فَقَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ
جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
دِرْهَمًا كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَتْ . بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ
[وَقْتُ الْعُمْرَةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيّةِ ذِي الْقَعْدَةِ
أَوْ فِي ذِي الْحِجّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لِسِتّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ
فِيمَا زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَجّ النّاسُ
تِلْكَ السّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّ عَلَيْهِ وَحَجّ
بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السّنَةَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، وَهِيَ سَنَةَ ثَمَانٍ
وَأَقَامَ أَهْلُ الطّائِفِ عَلَى [ ص 501
] شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا
بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .
أَمْرُ
كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الطّائِفِ
وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ
أَبِي سُلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ ، مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ
وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ، ابْنَ الزّبَعْرَى
وَهُبَيْرَةَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك
فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ
فَانْجُ إلَى نَجَائِك مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَدْ قَالَ
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ
لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَك هَلْ لَكَا ؟
فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفَاعِلٍ ... عَلَى
أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبَا لَهُ ...
عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبَا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ ... وَلاَ
قَائِلٌ إِمّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً ...
فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " الْمَأْمُورُ
" . وَقَوْلُهُ " فَبَيّنْ لَنَا " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ ،
[ ص 502 ]
مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ
لَكَ فِيمَا قُلْت بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيّةً ...
فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
وَخَالَفْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتّبَعْتَهُ ... عَلَى
أَيّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ...
عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفِ ... وَلَا
قَائِلٍ إمّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا
قَالَ وَبَعَثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ ، فَلَمّا أَتَتْ
بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَمّا سَمِعَ " سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ " : صَدَقَ وَإِنّهُ
لَكَذُوبٌ ، أَنَا الْمَأْمُونُ . وَلَمّا سَمِعَ " عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ
أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ
وَلَا أُمّهُ . ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبِ
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الّتِي ...
تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهْيَ أَحْزَمُ
إلَى اللّهِ ( لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ ) وَحْدَهُ
... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنْ
النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ
أَبِي سُلْمَى عَلَى مُحَرّمِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا يَقُولُ كَعْبٌ "
الْمَأْمُونُ " ، وَيُقَالُ "
الْمَأْمُورُ " فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ لِقَوْلِ
قُرَيْشٍ الّذِي كَانَتْ تَقُولُهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .
[ قُدُومُ كَعْبٍ عَلَى الرّسُولِ وَقَصِيدَتُهُ اللّامِيّةُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا
الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ [ ص 503 ] كَانَ فِي
حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالُوا : هُوَ مَقْتُولٌ . فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ
شَيْءٍ بُدّا ؟ قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ
عَدُوّهِ ثُمّ خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ . مِنْ جُهَيْنَةَ ، كَمَا ذُكِرَ لِي ، فَغَدَا
بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحَ
فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ لَهُ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ
فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ . فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك
تَائِبًا مُسْلِمًا ، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ ؟
قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ ؟ قَالَ أَنَا يَا
رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ
بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ،
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْك فَإِنّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا
، نَازِعًا ( عَمّا كَانَ عَلَيْهِ ) قَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ
مِنْ الْأَنْصَارِ ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ
يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرِ فَقَالَ فِي
قَصِيدَتِهِ الّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 504 ]
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مُتَبْولُ ...
مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلّا
أَغَنّ غَضِيضُ الطّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً ... لَا
يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ...
كَأَنّهُ مُنْهَلٌ بِالرّاحِ مَعْلُولُ
شُجّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ
بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ
تَنْفِي الرّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ...
مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعالِيلُ
فَيَالَهَا
خُلّةً لَوْ أَنّهَا صَدَقَتْ ... بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ انّ النّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنّهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ
وَوَلْغٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا
تَلَوّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسّكُ بِالْعَهْدِ الّذِي زَعَمَتْ ... إلّا
كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرّنْكَ مَا مَنّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إنّ
الْأَمَانِيّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا
مَوَاعِيدُهَا إلّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدّتُهَا ... وَمَا إخَالُ
لَدَيْنَا مِنْكِ تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلّغُهَا ... إلّا
الْعِتَاقُ النّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلّغَهَا إلّا عُذَافِرَةٌ ... لَهَا عَلَى
الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا
طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ ... إذَا
تَوَقّدَتْ الْحِزّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلّدُهَا فَعْمٌ مُقَيّدُهَا ... فِي
خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذَكّرَةٌ ... فِي
دَفّهَا سَعَةٌ قُدّامُهَا مِيلُ
وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيّسُهُ ... طِلْحٌ
بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا
خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمّ يُزْلِقُهُ ...
مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ...
مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزّوْرِ مَفْتُولُ
كَأَنّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا ... مِنْ
خَطْمِهَا وَمِنْ اللّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... فِي
غَارِزٍ لَمْ تَخَوّنْهُ الْأَحَالِيلُ
قَنْوَاءُ فِي حُرّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ
مُبِينٌ وَفِي الْخَدّيْنِ تَسْهِيلُ
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهْيَ لَاحِقَةٌ ... ذَوَابِلٍ
مَسّهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرِ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ...
لَمْ يَقِهِنّ رُءُوسَ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ
كَأَنّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ... وَقَدْ
تَلَفّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
[ ص 505 ] [ ص 506 ] [ ص 507 ] [ ص 508 ]
يَوْمًا
يَظَلّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا ... كَأَنّ ضَاحِيَهُ بِالشّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جَفَلَتْ ...
وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
شَدّ النّهَارِ ذِرَاعَا عَيْطَلٍ نَصَفٍ ... قَامَت
فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوّاحَةٍ رِخْوَةِ الضّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمّا
نَعَى بِكْرَهَا النّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِى اللّبَانَ بِكَفّيْهَا وَمِدْرَعُهَا ...
مُشَقّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إنّك
يَا بْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ ... لَا
أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ ... فَكُلّ
مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ...
يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبّئْتُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي ...
وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاك الّذِي أَعْطَاك نَافِلَةَ الْ ...
قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ...
أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى
وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلّ يَرْعَدُ إلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ
الرّسُولِ بِإِذْنِ اللّهِ تَنْوِيلُ
حَتّى وَضَعْتُ يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفّ
ذِي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ ... وَقِيلَ
إنّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ ... فِي
بَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ...
لَحْمُ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ ... أَنْ
يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً ... وَلَا
تَمَشّى بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرّجُ
الْبَزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنّ الرّسَولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ
مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
[ ص 509 ] [ ص 510 ] [ ص 511 ] [ ص 512 ]
فِي
عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا
زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفُ ... عِنْدَ
اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالُ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ
نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنّهَا
حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ...
قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ...
ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
لَا يَقَعَ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا
لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
[ ص 513 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 514 ] قَالَ كَعْبٌ
هَذِهِ الْقَصِيدَةُ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ . وَبَيْتُهُ " حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا "
وَبَيْتُهُ " يَمْشِي الْقُرَادُ " ، وَبَيْتُهُ " عَيْرَانَةٌ
قُذِفَتْ " ، وَبَيْتُهُ "
تُمِرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ " ، وَبَيْتُهُ
" تَفْرِي اللّبَان "
، وَبَيْتُهُ
" إذَا يُسَاوِرُ قِرْنَا " ، وَبَيْتُهُ " وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ
" : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ
.
[ اسْتِرْضَاءُ كَعْبٍ الْأَنْصَارَ بِمَدْحِهِ إيّاهُمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ : فَلَمّا قَالَ كَعْبٌ " إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
" ، وَإِنّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا
صَنَعَ بَهْ مَا صَنَعَ وَخَصّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ
؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ
مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنْ
الْيَمَنِ [ ص 515 ]
مَنْ سَرّهُ كَرْمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي
مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إنّ
الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ
الْهِنْدِيّ غَيْرَ قِصَارِ
وَالنّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرّةٍ ... كَالْجَمْرِ
غَيْرَ كَلَيْلَةِ الْأَبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ ...
لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
وَالْقَائِدِينَ النّاسَ عَنْ أَدْيَانِهِمْ ...
بِالْمَشْرَفِيّ وَبِالْقَنَا الْخَطّارِ
يَتَطَهّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسْكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ
مَنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنٍ خَفِيّةٍ ... غُلْبُ
الرّقَابِ مِنْ الْأَسْوَدِ ضَوَارِي
وَإِذَا حَلَلْتَ لِيَمْنَعُوك إلَيْهِمْ ... أَصْبَحْتَ
عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْفَارِ
ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ
لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلّهُ ... فِيهِمْ
لَصَدّقَنِي الّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النّجُومُ فَإِنّهُمْ ...
لِلطّارِقِينَ النّازِلِينَ مَقَارِي
فِي الْغُرّ مِنْ غَسّانَ مِنْ جُرْثُومَةٍ ... أَعْيَتْ
مَحَافِرُهَا عَلَى الْمِنْقَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ حَيْنَ أَنْشَدَهُ " بَانَتْ
سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
لَوْلَا ذَكَرْت الْأَنْصَارَ بِخَيْرِ ، فَإِنّهُمْ
لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ لِي عَنْ عَلِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ
أَنّهُ قَالَ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ " بَانَتْ سُعَادٌ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
غَزْوَةُ
تَبُوكَ
فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ
هِشَامٍ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ [ ص 516 ] أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْن ذِي الْحَجّةِ إلَى رَجَبٍ ثُمّ أَمَرَ النّاسَ
بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزّهْرِيّ وَيَزِيدُ بْنُ
رُومَانَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا ، كُلّ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا
بَلَغَهُ عَنْهَا ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدّثُ مَا لَا يُحَدّثُ بَعْضٌ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالتّهَيّؤِ
لِغَزْوِ الرّومِ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النّاسِ وَشِدّةٍ مِنْ الْحَرّ
وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَالنّاسُ يُحِبّونَ
الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَلَى الْحَالِ
مِنْ الزّمَانِ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلّا كَنّى عَنْهَا ، وَأَخْبَرَ
أَنّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ إلّا مَا كَانَ مِنْ
غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَإِنّهُ بَيّنَهَا لِلنّاسِ لِبُعْدِ الشّقّةِ وَشِدّةِ
الزّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوّ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ لِيَتَأَهّبَ النّاسُ
لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ فَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ يُرِيدُ
الرّومَ .
[ تَخَلّفَ الْجَدّ وَمَا نَزَلَ فِيهِ ]
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِك لِلْجَدّ بْنِ قِيسٍ أَحَدِ بَنِي
سَلِمَةَ يَا جَدّ ، هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ تَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنّي ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ
عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي ، وَإِنّي
أَخْشَى إنْ رَأَيْتَ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ
عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَك
فَفِي الْجَدّ بْنِ قِيسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أَيْ إنْ كَانَ إنّمَا خَشَى الْفِتْنَةَ مِنْ
نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِك بِهِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ
أَكْبَرُ بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالرّغْبَة بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَقُولُ تَعَالَى : وَإِنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ . [
ص 517 ]
[ مَا نَزَلَ فِي الْقَوْمِ الْمُثَبّطِينَ ]
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضِ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ زَهَادَةٌ فِي الْجِهَادِ وَشَكّا فِي
الْحَقّ وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ
اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ
نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا
وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
[ تَحْرِيقُ بَيْتِ سُوَيْلِمٍ وَشِعْرُ الضّحّاكِ فِي ذَلِكَ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي الثّقَةُ عَمّنْ
حَدّثَهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ
بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ
يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيّ ، وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ
جَاسُومَ ، يُثَبّطُونَ النّاسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ .
فَاقْتَحَمَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ
رِجْلُهُ وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا . فَقَالَ الضّحّاكُ فِي ذَلِكَ
كَادَتْ وَبَيْتِ اللّهِ نَارُ مُحَمّدٍ ... يَشِيطُ
بِهَا الضّحّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ
وَظَلْتُ وَقَدْ طَبّقْتُ كِبْسَ سُوَيْلِمٍ ...
أَنَوْءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقَى
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ... أَخَافُ
وَمَنْ تَشْمَلْ بِهِ النّارُ يُحْرَق
[ حَثّ الرّسُولِ عَلَى النّفَقَةِ وَشَأْنُ عُثْمَانَ فِي ذَلِكَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ
وَالِانْكِمَاشِ وَجَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي
سَبِيلِ [ ص 518 ] فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا ،
وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ
مِثْلَهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُثْمَانَ
بْنَ عَفّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ
دِينَارٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْضَ
عَنْ عُثْمَانَ ، فَإِنّي عَنْهُ رَاضٍ
[ شَأْنُ الْبَكّائِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رِجَالًا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ
الْبَكّاءُونَ ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ ،
أَخُو بَنِي حَارِثَةَ وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي
مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَعَمْرُو بْنُ حُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ أَخُو بَنِي
سَلِمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ الْمُزَنِيّ - وَبَعْضُ النّاسِ
يَقُولُ بَلْ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيّ - وَهَرَمِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَخُو
بَنِي وَاقِفٍ وَعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيّ . فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةِ فَقَالَ لَا
أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ، فَتَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ
حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَلَغَنِي أَنّ
ابْنَ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النّضْرِيّ لَقَى أَبَا لَيْلَى عَبْدَ
الرّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ
فَقَالَ مَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا
: جِئْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِيَحْمِلَنَا ، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ
وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمَا
نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ وَرَوّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ فَخَرَجَا مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ شَأْنُ الْمُعَذّرِينَ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَجَاءَهُ الْمُعَذّرُونَ مِنْ
الْأَعْرَابِ ، فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ [ ص 519 ]
[ تَخَلّفُ نَفَرٍ عَنْ غَيْرِ شَكّ ]
ثُمّ اسْتَتَبّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَفَرُهُ وَأَجْمَعَ السّيْرَ وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
أَبْطَأَتْ بِهِمْ النّيّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى
تَخَلّفُوا عَنْهُ عَنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ
بْنِ أَبِي كَعْبٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ أَخُو بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ، أَخُو بَنِي وَاقِفٍ وَأَبُو
خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ . وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لَا
يُتّهَمُونَ فِي إسْلَامِهِمْ .
[ خُرُوجُ الرّسُولِ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ ]
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ
وَذَكَرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، مَخْرَجَهُ
إلَى تَبُوكَ ، سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ .
[ تَخَلّفُ الْمُنَافِقِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَضَرَبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أُبَيّ مَعَهُ عَلَى حِدَةٍ عَسْكَرَهُ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابٍ ، وَكَانَ
فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ . فَلَمّا سَارَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَخَلّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ
، فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرّيْبِ .
[ شَأْنُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ]
وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ
بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا خَلّفَهُ
إلّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَفّفًا مِنْهُ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ
أَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ ثُمّ
خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ
بِالْجُرْفِ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنّكَ إنّمَا
خَلّفَتْنِي أَنّك اسْتَثْقَلْتنِي وَتَخَفّفَتْ مِنّي ، فَقَالَ كَذَبُوا ،
وَلَكِنّنِي خَلّفْتُك لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي ، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي
أَهْلِي وَأَهْلِك ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ
هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي ، فَرَجَعَ عَلَيّ إلَى الْمَدِينَةِ
؛ وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَفَرِهِ [ ص 520
] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
رُكَانَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ
أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ
هَذِهِ الْمَقَالَةَ
شَأْنُ
أَبِي خَيْثَمَةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ رَجَعَ عَلِيّ إلَى
الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى
سَفَرِهِ ثُمّ إنّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارّ فَوَجَدَ
امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشّتْ كُلّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا ، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيّأَتْ لَهُ
فِيهِ طَعَامًا . فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى
امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الضّحّ وَالرّيحِ وَالْحَرّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ
وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا
بِالنّصَفِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى
أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَيّئَا ؛ لِي زَادًا
، فَفَعَلَتَا . ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ
تَبُوكَ . وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْر بْنَ وَهْبٍ
الْجُمَحِيّ فِي الطّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَتَرَافَقَا ، حَتّى إذَا دَنَوَا مِنْ تَبُوكَ . قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ
بْنِ وَهْبٍ إنّ لِي ذَنْبًا ، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَعَلَ حَتّى إذَا دَنَا . مِنْ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ
النّاسُ هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ؛ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ
وَاَللّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ . فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ . ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرَ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرِ [ ص 521 ] قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا ، وَاسْمُهُ
مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ :
لَمّا رَأَيْتُ النّاسَ فِي الدّينِ نَافَقُوا ...
أَتَيْتُ الّتِي كَانَتْ أَعَفّ وَأَكْرَمَا
وَبَايَعْتُ بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمّدٍ ... فَلَمْ
أَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مَحْرَمًا
تَرَكْتُ خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً ... صفايا
كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمّمَا
وَكُنْتُ إذَا شَكّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحَتْ ... إلَى
الدّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمّمَا
[النّبِيّ وَالْمُسْلِمُونَ بِالْحِجْرِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ مَرّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا ، وَاسْتَقَى
النّاسُ مِنْ بِئْرِهَا . فَلَمّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ، وَلَا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ
لِلصّلَاةِ وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا
تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا يَخْرُجَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللّيْلَةَ إلّا
وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ . فَفَعَلَ النّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ
أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ فَأَمّا
الّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمّا الّذِي
ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ حَتّى طَرَحَتْهُ بِجَبَلَيْ
طَيّئٍ . فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ ثُمّ
دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلّذِي أُصِيبَ عَلَى
مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ وَأَمّا الْآخَرُ الّذِي وَقَعَ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ فَإِنّ
طَيّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ [ ص 522 ] وَالْحَدِيثُ عَنْ الرّجُلَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ ؛ وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ قَدْ سَمّى لَهُ الْعَبّاسُ الرّجُلَيْنِ
وَلَكِنّهُ اسْتَوْدَعَهُ إيّاهُمَا ، فَأَبَى عَبْدُ اللّهِ أَنْ يُسَمّيَهُمَا
لِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا مَرّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجْرِ سَجّى ثَوْبَهُ عَلَى
وَجْهِهِ وَاسْتَحَثّ رَاحِلَتَهُ ثُمّ قَالَ لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الّذِينَ
ظَلَمُوا إلّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا
أَصَابَهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَصْبَحَ النّاسُ وَلَا مَاءَ
مَعَهُمْ شَكَوْا ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ
سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنْ
الْمَاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ قَالَ قُلْت لِمَحْمُودِ هَلْ كَانَ النّاسُ يَعْرِفُونَ النّفَاقَ
فِيهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ
وَمِنْ أَبِيهِ وَمِنْ عَمّهِ وَفِي عَشِيرَتِهِ ثُمّ يَلْبَسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
عَلَى ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ مَحْمُودٌ لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي
عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٌ نِفَاقُهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ سَارَ فَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ
النّاسِ بِالْحِجْرِ مَا كَانَ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حِينَ دَعَا ، فَأَرْسَلَ اللّهُ السّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتّى
ارْتَوَى النّاسُ قَالُوا : أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ وَيْحَك ، هَلْ بَعْدَ
هَذَا شَيْءٌ قَالَ سَحَابَةٌ مَارّةٌ
.
[ نَاقَةٌ لِلرّسُولِ ضَلّتْ وَحَدِيثُ ابْنِ اللّصَيْتِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ ضَلّتْ
نَاقَتُهُ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا ، وَعِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 523 ] يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ ، وَكَانَ
عَقَبِيّا بَدْرِيّا ؟ وَهُوَ عَمّ بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِي
رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيّ وَكَانَ مُنَافِقًا . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ لُصَيْبٍ ( بِالْبَاءِ ) . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ
، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالُوا : فَقَالَ زَيْدُ بْنُ
اللّصَيْتِ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَعُمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَيْسَ مُحَمّدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيُخْبِرُكُمْ
عَنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ إنّ رَجُلًا قَالَ
هَذَا مُحَمّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيَزْعُمُ أَنّهُ يُخْبِرُكُمْ
بِأَمْرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ وَإِنّي وَاَللّهِ مَا
أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللّهُ وَقَدْ دَلّنِي اللّهُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ فِي
هَذَا الْوَادِي ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا
، فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُونِي بِهَا ، فَذَهَبُوا ، فَجَاءُوا بِهَا .
فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَعَجَبٌ مِنْ
شَيْءٍ حَدّثَنَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آنِفًا ، عَنْ
مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللّهُ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي قَالَ
زَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدٌ وَاَللّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ
قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ . فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ
وَيَقُولُ إلَيّ عِبَادَ اللّهِ إنّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ
اُخْرُجْ أَيْ عَدُوّ اللّهِ مِنْ رَحْلِي ، فَلَا تَصْحَبْنِي
[ شَأْنُ أَبِي ذَرّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 524 ] فَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ
أَنّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ لَمْ يَزَلْ مُتّهَمًا
بِشَرّ حَتّى هَلَكَ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سَائِرًا ، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجُلُ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ
تَخَلّفَ فُلَانٌ فَيَقُولُ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُهُ اللّهُ
تَعَالَى بِكَمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ
حَتّى قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ تَخَلّفَ أَبُو ذَرّ وَأَبْطَأَ بِهِ
بَعِيرُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيَلْحَقُهُ اللّهُ بِكَمْ
، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ وَتَلَوّمَ أَبُو
ذَرّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ
عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَاشِيًا . وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى
الطّرِيقِ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ
أَبَا ذَرّ . فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ
وَاَللّهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ ، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ
وَحْدَهُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ
الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ ، قَالَ لَمّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرّ إلَى الرّبَذَةِ ،
وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امْرَأَتُهُ
وَغُلَامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ اغْسِلَانِي وَكَفّنَانِي ، ثُمّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ
الطّرِيقِ فَأَوّلُ رَكْبٍ يَمُرّ بِكَمْ فَقُولُوا : هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ .
فَلَمّا مَاتَ فَعَلَا ذَلِكَ بِهِ . ثُمّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ
وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ
عُمّارٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ إلّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ قَدْ
كَادَتْ الْإِبِلُ تَطَؤُهَا ، وَقَامَ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ . فَقَالَ هَذَا
أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى
دَفْنِهِ . قَالَ فَاسْتَهَلّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ
صَدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْشِي وَحْدَك وَتَمُوتُ وَحْدَك
، وَتُبْعَثُ وَحْدَك . ثُمّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ ثُمّ
حَدّثَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ .
[ تَخْذِيلُ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُسْلِمَيْنِ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ وَمِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ
مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّر ٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مَخْشِيّ - يُشِيرُونَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ [ ص 525 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ
إلَى تَبُوكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ أَتَحْسِبُونَ جَلّادَ بَنِي
الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكَمْ
غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ
مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي أُقَاضِي عَلَى أَنْ يُضْرَبُ
كُلّ ( رَجُلٍ ) مِنّا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَإِنّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا
قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- فِيمَا بَلَغَنِي - لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ
احْتَرَقُوا ، فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا ، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى ،
قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا . فَانْطَلَقَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ
فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ
فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا :
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ
وَجَلّ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } وَقَالَ
مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي ؛
وَكَأَنّ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ ،
فَتَسَمّى عَبْدَ الرّحْمَنِ وَسَأَلَ اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا
لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ
أَثَرٌ .
[الصّلْحُ بَيْنَ الرّسُولِ وَيُحَنّةَ ]
وَلَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ ، أَتَاهُ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ ، صَاحِبُ أَيْلَةَ ،
فَصَالَحَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ
وَأَتَاهُ أَهْلَ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ فَكَتَبَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ كِتَابًا ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ .
[ كِتَابُ الرّسُولِ لِيُحَنّةَ ]
فَكَتَبَ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ [ ص 526 ] بِسْمِ
اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ ، مُحَمّدٍ النّبِيّ
رَسُولِ اللّهِ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ ، سُفُنُهُمْ
وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ
النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ ،
وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا ، فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ
دُونَ نَفْسِهِ . وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا
يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ
أَوْ بَحْرٍ .
[ حَدِيثُ أَسْرِ أُكَيْدِرٍ ثُمّ مُصَالَحَتُهُ ]
ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَبَعَثَهُ إلَى أُكَيْدِرِ دَوْمَةَ ، وَهُوَ
أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا ،
وَكَانَ نَصْرَانِيّا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِخَالِدِ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ، فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ
مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ وَهُوَ
عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا
بَابَ الْقَصْرِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ ؟
قَالَ لَا وَاَللّهِ قَالَتْ فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ ؟ قَالَ لَا أَحَدَ .
فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ
بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ يُقَالُ لَهُ حَسّانُ . فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمُطَارِدِهِمْ
. فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَخَذَتْهُ ؟ وَقَتَلُوا أَخَاهُ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ
دِيبَاجٍ مُخَوّصٌ بِالذّهَبِ فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ عَلَيْهِ قَالَ
ابْنَ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَأَيْت قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِينَ قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ
بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ خَالِدًا قَدِمَ بِأُكَيْدِرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ
ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ طَيّئٍ :
يُقَالُ لَهُ بُجَيْرُ بْنُ بُجْرَةَ يَذْكُرُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدِ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ وَمَا صَنَعَتْ
الْبَقَرُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى اسْتَخْرَجَتْهُ لِتَصْدِيقِ قَوْلِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 527 ]
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنّي ... رَأَيْتُ
اللّهَ يَهْدِي كُلّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكِ ... فَإِنّا قَدْ
أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ
[ الرّجُوعُ إلَى الْمَدِينَةِ ]
فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ يُجَاوِزْهَا ، ثُمّ انْصَرَفَ
قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ .
[ حَدِيثُ وَادِي الْمُشَقّقِ وَمَائِهِ ]
وَكَانَ فِي الطّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ ، مَا
يَرْوِي الرّاكِبَ وَالرّاكِبَيْنِ وَالثّلَاثَةَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي
الْمُشَقّقِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ
سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَادِي فَلَا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَهُ
. قَالَ فَسَبَقَهُ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ
فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ
فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا . فَقَالَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ فَقِيلَ
لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَقَالَ أَوْ لَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ
يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتّى آتِيَهُ ثُمّ لَعَنَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ . ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ
الْوَشَلِ فَجَعَلَ يَصُبّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَصُبّ ثُمّ نَضَحَهُ
بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِمَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ فَانْخَرَقَ مِنْ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ
مَنْ سَمِعَهُ - مَا إنّ لَهُ حِسّا كَحِسّ الصّوَاعِقِ فَشَرِبَ النّاسُ
وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَتَسْمَعُنّ بِهَذَا
الْوَادِي ، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ .
[ وَفَاةُ ذِي الْبِجَادَيْنِ وَقِيَامُ الرّسُولِ عَلَى دَفْنِهِ ]
قَالَ وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، [ ص 528
] عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدّثُ قَالَ
قُمْت مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، قَالَ فَرَأَيْت شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ
الْعَسْكَرِ قَالَ فَاتّبَعْتهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللّهِ ذُو
الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيّ قَدْ مَاتَ وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
يُدَلّيَانِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا ، فَدَلّيَاهُ
إلَيْهِ فَلَمّا هَيّأَهُ لِشِقّهِ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَمْسَيْت رَاضِيًا عَنْهُ
فَارْضَ عَنْهُ . قَالَ يَقُولُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
صَاحِبَ الْحُفْرَةِ
[ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ ذَا الْبِجَادَيْنِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ ذَا
الْبِجَادَيْنِ لِأَنّهُ كَانَ يُنَازِعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ قَوْمُهُ
مِنْ ذَلِكَ وَيُضَيّقُونَ عَلَيْهِ حَتّى تَرَكُوهُ فِي بِجَادِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ الْجَافِي ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ شَقّ
بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ فَاِتّزَرَ بِوَاحِدِ وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ ثُمّ أَتَى
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقِيلَ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِذَلِكَ
وَالْبِجَادُ أَيْضًا : الْمِسْحُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
كَأَنّ أَبَانًا فِي عَرَانِينِ وَدْقِهِ ... كَبِيرُ
أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمّلِ
[ سُؤَالُ الرّسُولِ لِأَبِي رُهْمٍ عَمّنْ تَخَلّفَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ [ ص 529 ] ابْنِ أَخِي أَبِي
رُهْمٍ الْغِفَارِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ
وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ بَايَعُوا
تَحْتَ الشّجَرَةِ ، يَقُولُ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ ، فَسِرْت ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ
بِالْأَخْضَرِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَلْقَى اللّهُ عَلَيْنَا النّعَاسَ فَطَفِقْتُ أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ
رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَيُفْزِعُنِي دُنُوّهَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ
فَطَفِقْت أَحُوزُ رَاحِلَتِي عَنْهُ حَتّى غَلَبَتْنِي عَيْنَيّ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ
وَنَحْنُ فِي بَعْضِ اللّيْلِ فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَةَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا
بِقَوْلِهِ حَسّ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِي . فَقَالَ سِرْ
فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُنِي عَمّنْ
تَخَلّفَ عَنْ بَنِي غِفَارٍ ، فَأَخْبَرَهُ بِهِ فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي :
مَا فَعَلَ النّفَرُ الْحُمْرُ الطّوَالُ الثّطَاطُ . فَحَدّثْته بِتَخَلّفِهِمْ .
قَالَ فَمَا فَعَلَ النّفَرُ السّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ ؟ قَالَ قُلْت :
وَاَللّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنّا . قَالَ بَلَى ، الّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ
شَدَخٍ فَتَذَكّرْتهمْ فِي بَنِي غِفَارٍ ، وَلَمْ أَذْكُرْهُمْ حَتّى ذَكَرْتُ
أُمّ لَهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا ، فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ ، حَلْفَاءُ فِينَا ؛ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا مَنَعَ أَحَدٌ أُولَئِكَ حِينَ
تَخَلّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ
اللّهِ إنّ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ أَنْ يَتَخَلّفَ عَنّي الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ
وَالْأَنْصَارُ وَغُفَارٌ وَأَسْلَمُ
.
أَمْرُ
مَسْجِدِ الضّرَارِ عِنْدَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِذِي أَوَانَ بَلَدٍ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ
قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللّيْلَةِ
الْمَطِيرَةِ وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ وَإِنّا نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا ،
فَتُصَلّي لَنَا فِيهِ فَقَالَ إنّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ ، أَوْ
كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ
اللّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيهِ [ ص 530 ]
[ أَمْرُ الرّسُولِ اثْنَيْنِ بِهَدْمِهِ ]
فَلَمّا نَزَلَ بِذِي أَوَانَ ، أَتَاهُ خَبَرُ
الْمَسْجِدِ فَدَعَا رَسُولُ ؟ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ
بْنَ الدّخْشُمِ ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَمَعْنِ بْنِ عَدِيّ أَوْ
أَخَاهُ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ ، أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ انْطَلِقَا إلَى
هَذَا الْمَسْجِدِ الظّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرّقَاهُ . فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ
حَتّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ ،
فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنِ أَنْظِرْنِي حَتّى أَخْرُجَ إلَيْك بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي
. فَدَخَلَ إلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنْ النّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا
، ثُمّ خَرَجَا يَشْتَدّانِ حَتّى دَخَلَاهُ وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرّقَاهُ
وَهَدّمَاهُ وَتَفَرّقُوا عَنْهُ وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ { وَالّذِينَ
اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } . .
. إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
[ أَسَمَاءُ بُنَاتِهِ ]
وَكَانَ الّذِينَ بَنُوهُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا :
خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ بَنِي عَمْرِو بْنِ
عَوْفٍ وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشّقَاقِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ
مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ
بْنِ زَيْدٍ وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنِ الْأَزْعَرِ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ
زَيْدٍ وَعَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو
بْنِ عَوْفٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنَاهُ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ ،
وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ
وَبَحْزَجُ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ
وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ ( بْنِ زَيْدٍ ) رَهْطُ
أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ .
[ مَسَاجِدُ الرّسُولِ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إلَى تَبُوكَ ]
وَكَانَتْ مَسَاجِدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إلَى تَبُوكَ مَعْلُومَةً مُسَمّاةً
مَسْجِدٌ بِتَبُوكَ وَمَسْجِدٌ بِثَنِيّةِ مِدْرَانَ ، وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ
الزّرَابِ وَمَسْجِدٌ بِالْأَخْضَرِ وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ الْخِطْمِيّ وَمَسْجِدٌ بِأَلَاءَ
وَمَسْجِدٌ بِطَرَفِ الْبَتْرَاءِ ، مِنْ ذَنْبِ كَوَاكِب ، وَمَسْجِدٌ بِالشّقّ
شِقّ تَارَا ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْجِيفَةِ ، وَمَسْجِدٌ [ ص 531 ] حَوْضَى ،
وَمَسْجِدٌ بِالْحِجْرِ وَمَسْجِدٌ بِالصّعِيدِ وَمَسْجِدٌ بِالْوَادِي ،
الْيَوْمَ وَادِي الْقُرَى ، وَمَسْجِدٌ بِالرّقُعَة مِنْ الشّقّةِ شِقّةِ بَنِي
عُذْرَةَ ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْمَرْوَةِ ، وَمَسْجِدٌ بِالْفَيْفَاءِ ،
وَمَسْجِدٌ بِذِي خُشُبٍ .
أَمْرُ
الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا وَأَمْرُ الْمُعَذّرِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
وَتَخَلّفَ أُولَئِكَ الرّهْطُ الثّلَاثَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكّ
وَلَا نِفَاقٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ
، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ لَا
تُكَلّمُنّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ ، وَأَتَاهُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ
مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ فَصَفَحَ
عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَعْذِرْهُمْ
اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ . وَاعْتَزَلَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ أُولَئِكَ النّفَرِ
الثّلَاثَةِ .
[ حَدِيثُ كَعْبٍ عَنْ تَخَلّفِهِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ مُحَمّدُ
بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ أَبَاهُ عَبْدَ اللّهِ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ حِينَ أُصِيبَ
بَصَرُهُ قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ
تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ ، وَحَدِيثَ صَاحِبَيْهِ قَالَ مَا تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ ، غَيْرَ أَنّي كُنْت قَدْ
تَخَلّفْت عَنْهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ غَزْوَةً لَمْ يُعَاتِبْ اللّهُ
وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا تَخَلّفَ عَنْهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، حَتّى جَمَعَ اللّهُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ ، وَحِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى
الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ
غَزْوَةُ بَدْرٍ هِيَ أَذْكَرُ فِي النّاسِ مِنْهَا . قَالَ كَانَ مِنْ خَبَرِي
حِينَ تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ
تَبُوكَ أَنّي لَمْ أَكُنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت
عَنْهُ [ ص 532 ] وَوَاللّهِ مَا اجْتَمَعَتْ لِي رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى
اجْتَمَعَتَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا ، حَتّى
كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ
عَدُوّ كَثِيرٍ فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ
وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ بِوَجْهِهِ الّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَنْ تَبِعَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ
حَافِظٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الدّيوَانَ يَقُولُ لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ مَكْتُوبٌ
. قَالَ كَعْبٌ فَقَلّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيّبَ إلّا ظَنّ أَنّهُ سَيَخْفَى
لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحَيّ مِنْ اللّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةِ حِينَ طَابَتْ الثّمَارُ
وَأُحِبّتْ الظّلَالُ فَالنّاسُ إلَيْهَا صُعْرٌ فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَجَعَلْت أَغْدُو
لِأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ،
أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي
حَتّى شَمّرَ النّاسُ بِالْجَدّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ غَادِيًا ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا
، فَقُلْت : أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمِ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَغَدَوْت
بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهّزَ فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ثُمّ
غَدَوْت فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي
حَتّى أَسْرَعُوا ، وَتَفَرّطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ
فَأُدْرِكُهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ فَلَمْ أَفْعَلْ وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِي
النّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، فَطُفْتُ
فِيهِمْ يَحْزُنُنِي أَنّي لَا أَرَى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي
النّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمّنْ عَذَرَ اللّهُ مِنْ الضّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرنِي
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ
جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي
عِطْفَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللّهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ مَا عَلِمْنَا مِنْهُ إلّا خَيْرًا ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 533 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَوَجّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ
، حَضَرَنِي بَثّي ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ
مِنْ سَخْطَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَدًا وَأَسْتَعِينُ
عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي ؛ فَلَمّا قِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ
وَعَرَفْت أَنّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إلّا بِالصّدْقِ فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ
وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ
إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ
جَلَسَ لِلنّاسِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا
يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ،
فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ
إلَى اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى جِئْت فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَتَبَسّمَ تَبَسّمَ
الْمُغْضَبِ ثُمّ قَالَ لِي : تَعَالَهْ فَجِئْت أَمْشِي ، حَتّى جَلَسْت بَيْنَ
يَدَيْهِ فَقَالَ لِي : مَا خَلّفَك ؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك ؟ قَالَ
قُلْت : إنّي يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ
أَهْلِ الدّنْيَا ، لَرَأَيْت أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرِ وَلَقَدْ أُعْطِيت
جَدَلًا ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا
كَذِبًا لَتَرْضِيَنّ عَنّي ، وَلَيُوشِكَنّ اللّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيّ
وَلَئِنْ حَدّثْتُك حَدِيثًا صِدْقًا تَجِدُ عَلَيّ فِيهِ إنّي لَأَرْجُو
عُقْبَايَ مِنْ اللّهِ فِيهِ وَلَا وَاَللّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ وَاَللّهِ مَا
كُنْت قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْك . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا هَذَا فَقَدْ صَدَقْت فِيهِ ، فَقُمْ
حَتّى يَقْضِيَ اللّهُ فِيك . فَقُمْت ، وَثَارَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي
سَلِمَةَ فَاتّبَعُونِي فَقَالُوا لِي : وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْتَ
أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا ، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إلَيْهِ
الْمُخَلّفُونَ قَدْ كَانَ كَافِيك ذَنْبُكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَك فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَرَدْت أَنْ
أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُكَذّبُ نَفْسِي
، ثُمّ قُلْت لَهُمْ هَلْ لَقَى هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ
رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَقَالَتِك ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ [ ص 534 ]
قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ العَمْرِيّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ
وَهِلَالُ بْنُ ( أَبِي ) أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ
فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَصَمَتّ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ
مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النّاسُ وَتَغَيّرُوا لَنَا ، حَتّى
تَنَكّرَتْ لِي نَفْسِي وَالْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الّتِي كُنْت أَعْرِفُ
فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا ،
وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَمّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبّ الْقَوْمِ
وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْت أَخْرُجُ وَأَشْهَدُ الصّلَوَاتِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ
الصّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، هَلْ حَرّك شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ
أَمْ لَا ؟ ثُمّ أُصَلّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْت
عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إلَيّ وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي ، حَتّى
إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْتُ حَتّى تَسَوّرْت
جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ .
وَهُوَ ابْنُ عَمّي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ فَسَلّمْت
عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ السّلَامَ فَقُلْت : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَنْشُدُك
بِاَللّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ . فَعُدْت
فَنَاشَدْته ، فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت
فَنَاشَدْته ، فَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَوَثَبْت
فَتَسَوّرْت الْحَائِطَ ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي
بِالسّوقِ إذَا نَبَطِيّ يَسْأَلُ عَنّي مِنْ نَبَطِ الشّامِ ، مِمّنْ قَدِمَ بِالطّعَامِ
يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلّ عَلَيّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ؟ قَالَ
فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيّ حَتّى جَاءَنِي ، فَدَفَعَ إلَيّ كِتَابًا
مِنْ مَلِكِ غَسّانَ ، وَكَتَبَ كِتَابًا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَإِذَا فِيهِ
" أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك ، وَلَمْ
يَجْعَلْك اللّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ [ ص 535 ] نُوَاسِك
" . قَالَ قُلْت حِينَ قَرَأْتهَا : وَهَذَا مِنْ الْبَلَاءِ أَيْضًا ، قَدْ
بَلَغَ بِي مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِيّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ .
قَالَ فَعَمَدْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجَرْته بِهَا . فَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ
حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إذَا رَسُولُ رَسُولِ
اللّهِ يَأْتِينِي ، فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك ، قَالَ قُلْت : أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا ،
قَالَ لَا ، بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا ، وَأَرْسَلَ إلَيّ صَاحِبِي
بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقُلْت لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِك ، فَكُونِي عِنْدَهُمْ
حَتّى يَقْضِي اللّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ مَا هُوَ قَاضٍ . قَالَ وَجَاءَتْ
امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ
يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَا خَادِمَ
لَهُ أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ ؟ قَالَ لَا ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنّكِ ؛
قَالَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَيّ وَاَللّهِ مَا
زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمهِ هَذَا ،
وَلَقَدْ تَخَوّفَتْ عَلَى بَصَرِهِ . قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ
اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ لِامْرَأَتِك ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ
بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا اْسَتَأْذِنُهُ
فِيهَا ، مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِي
فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ . قَالَ فَلَبِثْنَا
بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا ،
ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ
بُيُوتِنَا ، عَلَى الْحَالِ الّتِي ذَكَرَ اللّهُ مِنّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي ، وَقَدْ كُنْت ابْتَنَيْت
خَيْمَةً فِي ظَهْرِ سَلْعٍ ، فَكُنْت أَكُونُ فِيهَا إذْ سَمِعْت صَوْتَ صَارِخٍ
أَوْفَى عَلَى ظَهْرِ سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ،
أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْت سَاجِدًا ، وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ .
[ تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْهِمْ
]
قَالَ [ ص 536 ] وَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الْفَجْرَ
فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشّرُونَنَا ، وَذَهَبَ نَحْوَ صَاحِبَيّ مُبَشّرُونَ
وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَيّ فَرَسًا ، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ ، حَتّى أَوْفَى عَلَى
الْجَبَلِ فَكَانَ الصّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ ؛ فَلَمّا جَاءَنِي الّذِي
سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي ، نَزَعْت ثَوْبَيّ فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ بِشَارَةً
وَاَللّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمئِذٍ غَيْرَهُمَا ، وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ
فَلَبِسْتهمَا ، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَتَلَقّانِي النّاسُ يُبَشّرُونَنِي بِالتّوْبَةِ يَقُولُونَ لِيَهْنِكَ
تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْك ، حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ
اللّهِ ، فَحَيّانِي وَهَنّأَنِي ، وَوَاللّهِ مَا قَامَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ . قَالَ فَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَنْسَاهَا
لِطَلْحَةِ . قَالَ كَعْبٌ فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِي ، وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنْ السّرُورِ أَبْشِرْ
بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك ، قَالَ قُلْت : أَمِنْ
عِنْدَك يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْ مِنْ عِنْدَ اللّهِ ؟ قَالَ بَلْ مِنْ عِنْدِ
اللّهِ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا
اسْتَبْشَرَ كَأَنّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ . قَالَ وَكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ
مِنْهُ . قَالَ فَلَمّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ
مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي ، صَدَقَةً
إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِكٍ ، فَهُوَ خَيْرٌ لَك . قَالَ قُلْت :
إنّي مُمْسِكٌ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرِ وَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ
قَدْ نَجّانِي بِالصّدْقِ وَإِنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ أَنْ لَا أُحَدّثَ
إلّا صِدْقًا مَا حَيِيت ، وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلَاهُ
اللّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَفَضْلَ مِمّا أَبْلَانِي اللّهُ وَاَللّهِ مَا تَعَمّدْت
مِنْ كَذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى يَوْمِي هَذَا ، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظنِي اللّهُ فِيمَا
بَقِيَ . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ
مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ
إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } . . .
إلَى قَوْلِهِ { وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ } . [ ص 537 ] قَالَ كَعْبٌ
فَوَاَللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ نِعْمَةً قَطّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي
لِلْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمئِذٍ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْته ، فَأَهْلِكَ كَمَا
هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي
الّذِينَ كَذّبُوهُ حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ شَرّ مَا قَالَ لِأَحَدِ قَالَ {
سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا
عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
قَالَ وَكُنّا خُلّفْنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ عَنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الّذِينَ
قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ حَلَفُوا
لَهُ فَعَذَرَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْرَنَا ، حَتّى قَضَى اللّهُ فِيهِ مَا قَضَى ، فَبِذَلِكَ قَالَ
اللّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } وَلَيْسَ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنْ
تَخْلِيفِنَا لِتَخَلّفِنَا عَنْ الْغَزْوَةِ وَلَكِنْ لِتَخْلِيفِهِ إيّانَا ،
وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ . =
ج10. كتاب : السيرة النبوية لابن
هشام ج10.
المؤلف : أبو محمد عبد الملك بن هشام البصري
أَمْرُ
وَفْدِ ثَقِيفٍ وَإِسْلَامُهَا
فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ وَقَدِمَ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ . وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ اتّبَعَ أَثَرَهُ
عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ ، حَتّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى
الْمَدِينَةِ ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا يَتَحَدّثُ
قَوْمُهُ إنّهُمْ قَاتَلُوك ، :
وَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَنّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الّذِي كَانَ مِنْهُمْ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا رَسُولَ
اللّهِ أَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ فِي أَبْصَارِهِمْ . [ ص 538 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِيهِمْ
كَذَلِكَ مُحَبّبًا مُطَاعًا ، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ
رَجَاءَ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ فَلَمّا أَشْرَفَ لَهُمْ
عَلَى عَلِيّةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ
دِينَهُ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ
فَتَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ
بْنُ عَوْفٍ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ وَتَزْعُمُ الْأَحْلَافُ أَنّهُ
قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتّابِ بْنِ مَالِكٍ يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ
جَابِرٍ فَقِيلَ لِعُرْوَةِ مَا تَرَى فِي دَمِك ؟ قَالَ كَرَامَةٌ أَكَرَمَنِي
اللّهُ بِهَا ، وَشَهَادَةٌ سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ فَلَيْسَ فِيّ إلّا مَا فِي
الشّهَدَاءِ الّذِينَ قَتَلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ فَدَفَنُوهُ
مَعَهُمْ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
فِيهِ إنّ مِثْلَهُ فِي قَوْمِهِ لَكَمِثْلِ صَاحِبِ يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ
[ ائْتِمَارُ ثَقِيفٍ عَلَى إرْسَالِ نَفَرٍ لِلرّسُولِ ]
ثُمّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ
أَشْهُرًا ، ثُمّ إنّهُمْ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ وَرَأَوْا أَنّهُ لَا طَاقَةَ
لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا . حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
الْأَخْنَسِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ أَخَا بَنِي عِلَاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ
يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو ، الّذِي بَيْنَهُمَا سُبِئَ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ
أُمَيّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ ، فَمَشَى إلَى عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرٍو ،
حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ يَقُولُ
لَك : اخْرَجْ إلَيّ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ يَالَيْلَ لِلرّسُولِ وَيْلَك أَعَمْرٌو
أَرْسَلَك إلَيّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَهَا هُوَ ذَا وَاقِفًا فِي دَارِك ، فَقَالَ إنّ
هَذَا الشّيْءَ مَا كُنْت أَظُنّهُ لَعَمْرٌو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ
ذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : إنّهُ قَدْ
نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا
الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت ، قَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا ، وَلَيْسَتْ
لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ . فَعِنْدَ ذَلِكَ
ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْنَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ [ ص 539 ] أَحَدٌ
إلّا اُقْتُطِعَ فَأْتَمِرُوا بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوا أَنْ يُرْسِلُوا إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا ، كَمَا أَرْسَلُوا
عُرْوَةَ فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَ سِنّ
عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ
أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ كَمَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ . فَقَالَ لَسْت فَاعِلًا حَتّى
تُرْسِلُوا مَعِي رِجَالًا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ
الْأَحْلَافِ ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَيَكُونُوا سِتّةً فَبَعَثُوا
مَعَ عَبْدِ يَالَيْلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ ،
وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ
عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَخَا بَنِي يَسَارٍ
وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ
بْنِ رَبِيعَةَ ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالَيْلَ وَهُوَ
نَابَ الْقَوْمَ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِمْ إلّا خَشْيَةَ مِنْ
مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ لِكَيْ يَشْغَلَ كُلّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الطّائِفِ رَهْطَهُ .
[ قُدُومُهُمْ الْمَدِينَةَ وَسُؤَالُهُمْ الرّسُولَ
أَشْيَاءَ أَبَاهَا عَلَيْهِمْ
]
فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُوا قَنَاةَ
، أَلْفَوْا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، يَرْعَى فِي تَوْبَتِهِ رِكَابَ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا
عَلَى أَصْحَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُمْ تَرَكَ
الرّكَابَ عِنْدَ الثّقَفِيّينَ وَضَبَرَ يَشْتَدّ ، لِيُبَشّرَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ
الصّدّيقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنْ قَدْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ
الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرُطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ شُرُوطًا ، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقُنِي إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ
الْمُغِيرَةُ . فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ . [ ص 540 ] فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ
الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ
يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا
بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ . وَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ
فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ
وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اكْتَتَبُوا
كِتَابَهُمْ وَكَانَ خَالِدٌ هُوَ الّذِي كَتَبَ كِتَابَهُمْ بِيَدِهِ وَكَانُوا
لَا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَأْكُلَ مِنْهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا وَفَرَغُوا
مِنْ كِتَابِهِمْ وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتِي ، لَا يَهْدِمُهَا
ثَلَاثَ سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ
حَتّى سَأَلُوا شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ
يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ
أَنْ يَتَسَلّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ
أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ فَأَبَى
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا ، وَقَدْ
كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ
وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ
فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا
صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً
[ تَأْمِيرُ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَيْهِمْ ]
فَلَمّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُمْ أَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ
أَبِي الْعَاصِ ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ
أَحْرَصَهُمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ . فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ
إنّي قَدْ رَأَيْتُ هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التّفَقّهِ
فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ
[ بِلَالٌ وَوَفْدُ ثَقِيفٍ فِي رَمَضَانَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي [ ص 541 ] عِيسَى
بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ ،
عَنْ بَعْضِ وَفْدِهِمْ . قَالَ كَانَ بَلَالٌ يَأْتِينَا حِينَ أَسْلَمْنَا
وَصُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ
بِفِطْرِنَا وَسَحُورنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَيَأْتِينَا بِالسّحُورِ وَإِنّا لَنَقُولُ إنّا لَنَرَى الْفَجْرَ قَدْ
طَلَعَ فَيَقُولُ قَدْ تَرَكْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَتَسَحّرُ لِتَأْخِيرِ السّحُورِ وَيَأْتِينَا بِفِطْرِنَا ، وَإِنّا لَنَقُولُ
مَا نَرَى الشّمْسَ كُلّهَا ذَهَبَتْ بَعْدُ . فَيَقُولُ مَا جِئْتُكُمْ حَتّى
أَكَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَضَعُ يَدَهُ فِي
الْجَفْنَةِ فَيَلْتَقِمُ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بِفَطُورِنَا
وَسَحُورِنَا .
[ عَهْدُ الرّسُولِ لَابْنِ أَبِي الْعَاصِ حِينَ أَمّرَهُ عَلَى
ثَقِيفٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي
هِنْدٍ ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ ، قَالَ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَنِي عَلَى ثَقِيفٍ أَنْ قَالَ يَا عُثْمَانُ
تُجَاوِزْ فِي الصّلَاةِ ، وَاقْدُرْ النّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ فَإِنّ فِيهِمْ
الْكَبِيرَ وَالصّغِيرَ وَالضّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ
[هَدْمُ الطّاغِيَةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ
أَمْرِهِمْ وَتَوَجّهُوا إلَى بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُمْ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ ، فِي هَدْمِ الطّاغِيَةِ . فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى إذَا قَدِمُوا
الطّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنْ يُقَدّمَ أَبَا سُفْيَانَ
فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ اُدْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك ؛
وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَدْمِ ؛ فَلَمّا دَخَلَ
الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ قَوْمُهُ
دُونَهُ بَنُو مُعَتّبٍ ، خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ
عُرْوَةُ وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا وَيَقُلْنَ
لَتُبْكَيَنّ دُفّاعُ ... أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ
لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعَ [ ص 542 ] قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : " لَتُبْكَيَنّ
" عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَيَقُولُ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ وَاهَا
لَك آهَا لَك فَلَمّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيّهَا
أَرْسَلَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحُلِيّهَا مَجْمُوعٌ وَمَا لَهَا مِنْ الذّهَبِ وَالْجَزْعِ .
[ إسْلَامُ أَبِي مُلَيْح وَقَارِبٍ ]
وَقَد كَانَ أَبُو مُلَيْحِ بْنِ عُرْوَةَ وَقَارِبُ
بْنُ الْأَسْوَدِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَبْلَ وَفْدِ ثَقِيفٍ ، حِينَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ ،
وَأَنْ لَا يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا ، فَأَسْلَمَا ؛ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا ؛ فَقَالَا :
نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَقَالَا : وَخَالَنَا أَبَا
سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ .
[ سُؤَالُهُمَا الرّسُولُ قَضَاءَ دَيْنٍ مِنْ أَمْوَالِ
الطّاغِيَةِ ]
فَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ وَوَجّهَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةَ إلَى
هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو
مُلَيْحِ بْنِ عُرْوَةَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ
مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ نَعَمْ فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ يَا
رَسُولَ اللّهِ فَاقْضِهِ وَعُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ
مُشْرِكًا . فَقَالَ قَارِبٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا
رَسُولَ اللّهِ لَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إنّمَا الدّيْنُ
عَلَيّ وَإِنّمَا أَنَا الّذِي أُطْلَبُ بِهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ
وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَلَمّا جَمَعَ الْمُغِيرَةُ مَالَهَا
قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
أَمَرَك أَنْ تَقْضِيَ عَنْ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا ، فَقَضَى
عَنْهُمَا .
[ كِتَابُ الرّسُولِ لِثَقِيفِ ]
وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّذِي كَتَبَ لَهُمْ [ ص 543 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ
مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ : إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ
لَا يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ يُجْلَدُ
وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيَبْلُغُ بِهِ
إلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ . وَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ .
وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ
: بِأَمْرِ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فَلَا
يَتَعَدّهُ أَحَدٌ ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
.
حَجّ
أَبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ
اخْتِصَاصُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ بِتَأْدِيَةِ أَوّلِ
بَرَاءَةٍ عَنْهُ وَذِكْرُ بَرَاءَةَ وَالْقَصَصِ فِي تَفْسِيرِهَا . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَقِيّةَ
شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَوّالًا وَذَا الْقَعَدَةِ ثُمّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا
عَلَى الْحَجّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجّهُمْ وَالنّاسُ
مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجّهِمْ . فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
[ نُزُولُ بَرَاءَةٍ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ الرّسُولِ
وَالْمُشْرِكِينَ ]
وَنَزَلَتْ بَرَاءَةٌ فِي نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ
الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُصَدّ عَنْ
الْبَيْتِ أَحَدٌ جَاءَهُ وَلَا يَخَافُ أَحَدٌ فِي الشّهْرِ الْحِرَامِ . وَكَانَ
ذَلِكَ عَهْدًا عَامّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّاسِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ وَكَانَتْ بَيْنَ
ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ
قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ خَصَائِص ، إلَى آجَالٍ مُسَمّاةٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ
وَفِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُ فِي تَبُوكَ وَفِي قَوْلِ مَنْ
قَالَ مِنْهُمْ فَكَشَفَ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا سَرَائِرَ أَقْوَامٍ كَانُوا
يَسْتَخْفُونَ بِغَيْرِ مَا يُظْهِرُونَ مِنْهُمْ مَنْ سَمّى لَنَا ، وَمِنْهُمْ
مَنْ لَمْ يُسَمّ لَنَا ، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ لِأَهْلِ [ ص
544 ] { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ
مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ
وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحِجّةِ { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
وَإِنْ تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ
الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } أَيْ الْعَهْدَ الْخَاصّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمّى { ثُمّ لَمْ
يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمّوا
إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا
{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا
الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ } أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَمَرْتُك بِقَتْلِهِمْ {
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } . ثُمّ قَالَ { كَيْفَ
يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ } الّذِينَ كَانُوا هُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامّ
أَنْ لَا يُخِيفُوكُمْ وَلَا يُخِيفُوهُمْ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا فِي الشّهْرِ
الْحَرَامِ { عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَهِيَ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ
كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، إلَى
الْمُدّةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلّا هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ،
وَهِيَ الدّيلُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، الّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ
قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ . فَأُمِرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ
نَقَضَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدّتِهِ { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ
فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } . ثُمّ قَالَ تَعَالَى :
{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أَيْ الْمُشْرِكُونَ الّذِينَ لَا عَهْدَ
لَهُمْ إلَى مُدّةٍ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ الْعَامّ { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّا
وَلَا ذِمّةً } [ ص 545 ]
[ تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْإِلّ : الْحِلْفُ . قَالَ
أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ أَحَدُ بَنِي أُسَيّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ
لَوْلَا بَنُو مَالِكٍ وَالْإِلّ مَرْقَبَةٌ ...
وَمَالِكٌ فِيهِمْ الْآلَاءُ وَالشّرَفُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمَعَهُ
آلَالَ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا إلّ مِنْ الْآلَالِ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمْ
فَلَا تَأْلُنّ جُهْدًا
وَالذّمّةُ الْعَهْدُ . قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ
الْهَمْدَانِيّ وَهُوَ أَبُو مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ الْفَقِيهُ
وَكَانَ عَلَيْنَا ذِمّةٌ أَنْ تُجَاوِزُوا ... مِنْ
الْأَرْضِ مَعْرُوفًا إلَيْنَا وَمُنْكَرًا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لَهُ
وَجَمْعُهَا : ذِمَمٌ . { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ
وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدّوا
عَنْ سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ
إِلّا وَلَا ذِمّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } أَيْ قَدْ اعْتَدَوْا
عَلَيْكُمْ { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ
فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
[ اخْتِصَاصُ الرّسُولِ عَلِيّا بِتَأْدِيَةِ " بَرَاءَةٌ
" عَنْهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ
حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ [ ص 546 ] أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ
عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنّهُ قَالَ لَمّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ
لِيُقِيمَ لِلنّاسِ الْحَجّ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ بَعَثْت بِهَا
إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ لَا يُؤَدّي عَنّي إلّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ،
ثُمّ دَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ
اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٍ ، وَأَذّنْ فِي النّاسِ يَوْمَ
النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى ، أَنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا
يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَمَنْ
كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ
لَهُ إلَى مُدّتِهِ فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ
عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَضْبَاءَ حَتّى
أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ بِالطّرِيقِ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ بِالطّرِيقِ قَالَ
أَأَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ فَقَالَ بَلْ مَأْمُورٌ ثُمّ مَضَيَا . فَأَقَامَ
أَبُو بَكْرٍ لِلنّاسِ الْحَجّ وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السّنَةِ عَلَى
مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْحَجّ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى
إذَا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ قَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِاَلّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ
وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا ،
وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ
لَهُ إلَى مُدّتِهِ وَأَجّلَ النّاسَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَذّنَ
فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلّ قَوْمٍ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ بِلَادِهِمْ ثُمّ لَا
عَهْدٌ لِمُشْرِكِ وَلَا ذِمّةٌ إلّا أَحَدٌ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ إلَى مُدّةٍ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ .
فَلَمْ يَحُجّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
. ثُمّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةٍ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الشّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ وَأَهْلِ الْمُدّةِ إلَى الْأَجَلِ
الْمُسَمّى .
[ مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَمَرَ اللّهُ رَسُولَهُ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجِهَادِ أَهْلِ الشّرْكِ مِمّنْ نَقَضَ مِنْ
أَهْلِ الْعَهْدِ الْخَاصّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا إلّا أَنْ يَعْدُوَ فِيهَا عَادٍ
مِنْهُمْ فَيُقْتَلُ بِعَدَائِهِ فَقَالَ { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا
أَيْمَانَهُمْ وَهَمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ
اللّهُ } [ ص 547 ] { عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ
حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ
وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
[ تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِيجَةً دَخِيلٌ وَجَمْعُهَا :
وَلَائِجُ وَهُوَ مِنْ وَلَجَ يَلِجُ أَيْ دَخَلَ يَدْخُلُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ
عَزّ وَجَلّ { حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ } أَيْ يَدْخُلُ
يَقُولُ لَمْ يَتّخِذُوا دَخِيلًا مِنْ دُونِهِ يُسِرّونَ إلَيْهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ
نَحْوَ مَا يَصْنَعُ الْمُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلّذِينَ آمَنُوا {
وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } قَالَ الشّاعِرُ
وَاعْلَمْ بِأَنّك قَدْ جُعِلْتَ وَلِيجَةً ... سَاقُوا
إلَيْك الْحَتْفَ غَيْرَ مَشُوبِ
[ مَا نَزَلَ فِي الرّدّ عَلَى قُرَيْشٍ بِادّعَائِهِمْ
عُمَارَةَ الْبَيْتِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ :
إنّا أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَسُقَاةُ الْحَاجّ وَعُمّارِ هَذَا الْبَيْتِ فَلَا
أَحَدَ أَفْضَلُ مِنّا ؛ فَقَالَ { إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أَيْ إنّ عِمَارَتَكُمْ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ أَيْ مَنْ عَمّرَهَا بِحَقّهَا { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَأَقَامَ الصّلَاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ } أَيْ
فَأُولَئِكَ عُمّارُهَا { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }
وَعَسَى مِنْ اللّهِ حَقّ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ
الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ }
[ مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ]
ثُمّ الْقِصّةُ عَنْ عَدُوّهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى
ذِكْرِ حُنَيْنٍ ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَتُوَلّيهِمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَمَا
أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ نَصْرِهِ بَعْدَ تَخَاذُلِهِمْ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } وَذَلِكَ أَنّ النّاسَ قَالُوا : لَتَنْقَطِعَنّ
عَنّا الْأَسْوَاقُ فَلَتَهْلِكَنّ التّجَارَةُ وَلَيَذْهَبَنّ مَا كُنّا [ ص 548
] فَقَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ
اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ { إِنْ شَاءَ إِنّ اللّهَ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمّا تَخَوّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ
الْأَسْوَاقِ فَعَوّضَهُمْ اللّهُ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ بِأَمْرِ الشّرْكِ مَا
أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْجِزْيَةِ .
[ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ ]
ثُمّ ذَكَرَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ بِمَا فِيهِمْ مِنْ
الشّرّ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ
كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ
وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
[ مَا نَزَلَ فِي النّسِيءِ ]
ثُمّ ذَكَرَ النّسِيءَ وَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ
أَحْدَثَتْ فِيهِ . وَالنّسِيءُ مَا كَانَ يُحِلّ مِمّا حَرّمَ اللّهُ تَعَالَى
مِنْ الشّهُورِ وَيُحَرّمُ مِمّا أَحَلّ اللّهُ مِنْهَا ، فَقَالَ { إِنّ عِدّةَ
الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلَا تَظْلِمُوا
فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا ، وَلَا
حَلَالهَا حَرَامًا : أَيْ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشّرْكِ { إِنّمَا النّسِيءُ }
الّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ
اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ
}
[ مَا نَزَلَ فِي تَبُوكَ ]
ثُمّ ذَكَرَ تَبُوكَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ تَثَاقُلِ
الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا ، وَمَا أَعْظَمُوا مِنْ غَزْوِ الرّومِ ، حِينَ دَعَاهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جِهَادِهِمْ وَنِفَاقَ مَنْ
نَافَقَ [ ص 549 ] دُعُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ ثُمّ مَا نَعَى عَلَيْهِمْ
مِنْ إحْدَاثِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ
آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ
إِلَى الْأَرْضِ } ثُمّ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { يُعَذّبْكُمْ
عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
{ إِلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا
ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }
[ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ ]
ثُمّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَذْكُرُ أَهْلَ النّفَاقِ { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا
قَاصِدًا لَاتّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ
لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ
يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أَيْ إنّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ { عَفَا اللّهُ
عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ
الْكَاذِبِينَ } ؟ . . . إلَى قَوْلِهِ { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا
خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ
لَهُمْ }
[ تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيب ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ سَارُوا
بَيْنَ أَضْعَافِكُمْ فَالْإِيضَاعُ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ أَسْرَعَ مِنْ الْمَشْيِ
قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ
يَصْطَادُك الْوَحَدَ الْمُدِلّ بِشَأْوِهِ ...
بِشَرِيجٍ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
[ عَوْدٌ إلَى مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ
مِنْ ذَوِي الشّرَفِ فِيمَا بَلَغَنِي ، مِنْهُمْ [ ص 550 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ ، وَالْجَدّ بْنُ قِيسٍ ؛ وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي
قَوْمِهِمْ فَثَبّطَهُمْ اللّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا
عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ
فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ . فَقَالَ تَعَالَى : {
وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا
الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوك ، { وَقَلّبُوا
لَكَ الْأُمُورَ } أَيْ لِيَخْذُلُوا عَنْك أَصْحَابَك وَيَرُدّوا عَلَيْك أَمْرَك
{ حَتّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } وَكَانَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ فِيمَا
سُمّيَ لَنَا ، الْجَدّ بْنُ قِيسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جِهَادِ الرّومِ . ثُمّ كَانَتْ
الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ
أَوْ مُدّخَلًا لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ
فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا
إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أَيْ إنّمَا نِيّتُهُمْ وَرِضَاهُمْ وَسَخَطَهُمْ
لِدُنْيَاهُمْ .
[ مَا نَزَلَ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الصّدَقَاتِ ]
ثُمّ بَيّنَ الصّدَقَاتِ لِمَنْ هِيَ وَسَمّى أَهْلَهَا
، فَقَالَ { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
[ مَا نَزَلَ فِيمَنْ آذَوْا الرّسُولَ ]
ثُمّ ذَكَرَ غَشّهُمْ وَأَذَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ
هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الّذِي يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِيمَا
بَلَغَنِي ، نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَفِيهِ
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ
مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ
لَكُمْ } أَيْ يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَيُصَدّقُ بِهِ [ ص 551 ] ثُمّ قَالَ تَعَالَى
: { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَنْ
يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } ثُمّ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ
إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً } وَكَانَ الّذِي قَالَ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ وَدِيعَةَ بْنَ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ، مِنْ
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَكَانَ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِيمَا بَلَغَنِي :
مُخَشّنَ بْنَ حُمَيّرٍ الْأَشْجَعِيّ حَلِيفَ بَنِي سَلِمَةَ ، وَذَلِكَ أَنّهُ أَنْكَرَ
مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ . ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ صِفَتِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ
بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ
إِسْلَامِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ
أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } إلَى قَوْلِهِ { مِنْ وَلِيّ
وَلَا نَصِيرٍ } وَكَانَ الّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الْجُلَاسَ بْنَ
سُوَيْد بْنِ صَامِتٍ فَرَفَعَهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ فِي حِجْرِهِ يُقَال لَهُ
عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ ، فَأَنْكَرَهَا وَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قَالَهَا ، فَلَمّا
نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ تَابَ وَنَزَعَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ وَتَوْبَتُهُ فِيمَا
بَلَغَنِي . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } وَكَانَ
الّذِي عَاهَدَ اللّهَ مِنْهُمْ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ ، وَمُعَتّبَ بْنَ
قُشَيْرٍ ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ . ثُمّ قَالَ { الّذِينَ
يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لَا
يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الْمُطّوّعُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ
عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيّ أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ
، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَغّبَ فِي
الصّدَقَةِ وَحَضّ عَلَيْهَا ، فَقَامَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ،
فَتَصَدّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ ،
فَتَصَدّقَ بِمِئَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا مَا هَذَا إلّا
رِيَاءٌ وَكَانَ الّذِي تَصَدّقَ بِجَهْدِهِ أَبُو عُقَيْلٍ أَخُو بَنِي أُنَيْفٍ
أَتَى بِصَاعِ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهَا فِي الصّدَقَةِ فَتَضَاحَكُوا بِهِ
وَقَالُوا : إنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنْ صَاعِ أَبِي عُقَيْلٍ . ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ
لِبَعْضِ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِالْجِهَادِ [ ص 552 ] وَأَمَرَ بِالسّيْرِ إلَى تَبُوكَ ، عَلَى شِدّةِ الْحَرّ
وَجَدْبِ الْبِلَادِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ
قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا
} إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ
وَأَوْلَادُهُمْ }
[ مَا نَزَلَ بِسَبَبِ صَلَاةِ النّبِيّ عَلَى ابْنِ أَبَيّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ
سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَقُولُ لَمّا تُوُفّيَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبَيّ ، دُعِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلصّلَاةِ عَلَيْهِ
فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلَاةَ تَحَوّلْتُ حَتّى
قُمْت فِي صَدْرِهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُصَلّي عَلَى عَدُوّ اللّهِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبَيّ ابْنِ سَلُولَ ؟ الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ،
وَالْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ؟ أُعَدّدُ أَيّامَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَبَسّمُ حَتّى إذَا أَكْثَرْت قَالَ يَا عُمَرُ
أَخّرْ عَنّي ، إنّي قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت ، قَدْ قِيلَ لِي : اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً
فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَلَوْ أَعْلَمُ أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ
غُفِرَ لَهُ لَزِدْت . قَالَ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَشَى مَعَهُ حَتّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى فُرِغَ مِنْهُ
. قَالَ فَعَجِبْت لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَاَللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَوَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا يَسِيرًا
حَتّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ { وَلَا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ
أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَمَا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ تَعَالَى
[ مَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَأْذِنِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ
اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطّوْلِ مِنْهُمْ } وَكَانَ ابْنُ أَبَيّ مِنْ أُولَئِكَ
فَنَعَى اللّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ مِنْهُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى [ ص 553 ] { لَكِنِ
الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدّ اللّهُ
لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ
وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَكَانَ الْمُعَذّرُونَ
، فِيمَا بَلَغَنِي نَفَرًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ أَيْمَاءَ
بْنِ رَحْضَةَ ، ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ لِأَهْلِ الْعُذْرِ حَتّى انْتَهَى إلَى
قَوْلِهِ { وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا
أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ
حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } وَهُمْ الْبَكّاءُونَ . ثُمّ قَالَ
تَعَالَى : { إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا
بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ } وَالْخَوَالِفُ النّسَاءُ . ثُمّ ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ
وَاعْتِذَارَهُمْ فَقَالَ { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ
تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
[ مَا نَزَلَ فِيمَنْ نَافَقَ مِنْ الْأَعْرَابِ ]
ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ وَمَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ
وَتَرَبّصُهُمْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ } أَيْ مِنْ
صَدَقَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ { مَغْرَمًا وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ أَهْلَ
الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ فَقَالَ { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ
بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ
وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ }
[ مَا نَزَلَ فِي السّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ ]
ثُمّ ذَكَرَ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَفَضْلَهُمْ وَمَا وَعَدَهُمْ اللّهُ مِنْ
حُسْنِ ثَوَابِهِ إيّاهُمْ ثُمّ أَلْحَقَ بِهِمْ التّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ
فَقَالَ { رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : {
وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا
عَلَى النّفَاقِ } أَيْ لَجّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْرَهُ { سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ }
وَالْعَذَابُ الّذِي أَوْعَدَهُمْ اللّهُ تَعَالَى مَرّتَيْنِ فِيمَا [ ص 554 ]
غَمّهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ
مِنْ غَيْظِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ حِسْبَةٍ ثُمّ عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ إذَا
صَارُوا إلَيْهَا ، ثُمّ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الّذِي يُرِدّونَ إلَيْهِ عَذَابُ
النّارِ وَالْخُلْدُ فِيهِ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيّئًا عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . ثُمّ قَالَ
تَعَالَى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ } وَهُمْ الثّلَاثَةُ الّذِينَ خُلّفُوا ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْرَهُمْ حَتّى أَتَتْ مِنْ اللّهِ تَوْبَتُهُمْ
. ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } إلَخْ
الْقِصّةُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى { إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ } ثُمّ كَانَ قِصّةُ
الْخَبَرِ عَنْ تَبُوكَ ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَى آخِرِ السّورَةِ . وَكَانَتْ
بَرَاءَةٌ تُسْمَى فِي زَمَانِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبَعْدَهُ الْمُبَعْثِرَةَ لَمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرِ النّاسِ . وَكَانَتْ
تَبُوك ُ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
شِعْرُ
حَسّانَ الّذِي عَدّدَ فِيهِ الْمَغَازِيَ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَدّدُ أَيّامَ
الْأَنْصَارِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَذْكُرُ
مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي أَيّامِ غَزْوِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى
لَابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ : [ ص 555 ]
أَلَسْتُ خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا ... وَمَعْشَرًا
إنْ هُمْ عُمّوا وَإِنْ حُصِلُوا
قَوْمٌ هُمْ شَهِدُوا بَدْرًا بِأَجْمَعِهِمْ ... مَعَ
الرّسُولِ فَمَا أَلَوْا وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أَحَدٌ ... مِنْهُمْ
وَلَمْ يَكُ فِي إيمَانِهِمْ دَخَلُ
وَيَوْمَ صَبّحَهُمْ فِي الشّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ...
ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرّ النّارِ مُشْتَعِلُ
وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ ... عَلَى
الْجِيَادِ فَمَا خَامُوا وَمَا نَكَلُوا
وَذَا الْعَشِيرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمْ ... مَعَ
الرّسُولِ عَلَيْهَا الْبَيْضُ وَالْأَسَلُ
وَيَوْمَ وَدّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا ...
بِالْخَيْلِ حَتّى نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ
وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوّهُمْ ... لِلّهِ
وَاَللّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا
وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثُمّ كَانَ لَهُمْ ... مَعَ
الرّسُولِ بِهَا الْأَسْلَابُ وَالنّفَلُ
وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ ... فِيهَا
يَعُلّهُمْ بِالْحَرْبِ إذْ نَهِلُوا
وَغَزْوَةَ الْقَاعِ فَرّقْنَا الْعَدُوّ بِهِ ... كَمَا
تُفَرّقُ دُونَ الْمَشْرَبِ الرّسَلُ
وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ ... عَلَى
الْجِلَادِ فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا
وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيّتِهِ ...
مُرَابِطِينَ فَمَا طَاشُوا وَمَا عَجِلُوا
وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ ...
يَمْشُونَ كُلّهُمْ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ
بِالْبِيضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِيَةً ...
تَعْوَجّ فِي الضّرْبِ أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ
وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللّهِ مُحْتَسِبًا ... إلَى
تَبُوكَ وَهُمْ رَايَاتُهُ الْأُوَلُ
وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمْ ... حَتّى
بَدَا لَهُمْ الْإِقْبَالُ وَالْقَفَلُ
أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النّبِيّ وَهُمْ ...
قَوْمِي أَصِيرُ إلَيْهِمْ حَيْنَ أَتّصِلُ
- مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ عُهُودُهُمْ ...
وَقَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ إذْ قُتِلُوا
[ ص 556 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَجُزُ آخِرِهَا
بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ
.
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا :
كُنّا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَ مُحَمّدٍ ... فَلَمّا
أَتَى الْإِسْلَامُ كَانَ لَنَا الْفَضْلُ
وَأَكْرَمَنَا اللّهُ الّذِي لَيْسَ غَيْرَهُ ... إلَهٌ
بِأَيّامٍ مَضَتْ مَا لَهَا شَكْلُ
بِنَصْرِ الْإِلَهِ وَالرّسُولِ وَدِينِهِ ...
وَأَلْبَسَنَاهُ اسْمًا مَضَى مَا لَهُ مِثْلُ
أُولَئِكَ قَوْمِي خَيْرُ قَوْمٍ بِأَسْرِهِمْ ... فَمَا
عُدّ مِنْ خَيْرٍ فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
يَرُبّونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفِ مَنْ مَضَى ...
وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ دُونَ مَعْرُوفِهِمْ قُفْلُ
إذَا اخْتُبِطُوا لَمْ يُفْحِشُوا فِي نَدِيّهِمْ ...
وَلَيْسَ عَلَى سُؤَالِهِمْ عِنْدَهُمْ بُخْلُ
وَإِنْ حَارَبُوا أَوْ سَالَمُوا لَمْ يُشَبّهُوا ...
فَحَرْبُهُمْ حَتْفٌ وَسِلْمُهُمْ سَهْلُ
وَجَارُهُمْ مُوفٍ بِعَلْيَاءَ بَيْتُهُ ... لَهُ مَا
ثَوَى فِينَا الْكَرَامَةُ وَالْبَذْلُ
وَحَامِلُهُمْ مُوفٍ بِكُلّ حَمَالَةٍ ... تَحَمّلَ لَا
غُرْمٌ عَلَيْهَا وَلَا خَذْلُ
وَقَائِلهُمْ بِالْحَقّ إنْ قَالَ قَائِلٌ ...
وَحِلْمُهُمْ عَوْدٌ وَحُكْمُهُمْ عَدْلُ
وَمِنّا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ حَيَاتَهُ ... وَمَنْ
غَسّلَتْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ الرّسْلُ
[ ص 557 ] [ ص 558 ] [ ص 559 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَقَوْلُهُ " وَأَلْبَسْنَاهُ اسْمًا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ :
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا :
قَوْمِي أُولَئِكَ إنْ تَسْأَلِي ... كِرَامٌ إذَا
الضّيْفُ يَوْمًا أَلَمْ
عِظَامُ الْقُدُورِ لِأَيْسَارِهِمْ ... يَكُبّونَ
فِيهَا الْمُسِنّ السّنِمْ
يُؤَاسُونَ جَارَهُمْ فِي الْغِنَى ... وَيَحْمُونَ
مَوْلَاهُمْ إنْ ظُلِمْ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيّهِمْ ... يُنَادُونَ
عَضْبًا بِأَمْرِ غُشُمْ
مُلُوكًا عَلَى النّاسِ لَمْ يُمْلَكُوا ... مِنْ
الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ الْقَسَمْ
فَأَنْبَوْا بِعَادٍ وَأَشْيَاعِهَا ... ثَمُودَ
وَبَعْضِ بَقَايَا إرَمْ
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا
وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
نَوَاضِحَ قَدْ عَلّمَهَا اليهو ... دُ ( عَلْ ) إلَيْك
وَقَوْلًا هَلُمْ
وَفَمًا اشْتَهَوْا مِنْ عَصِيرِ الْقِطَا ... فِ
وَالْعَيْشِ رَخْوًا عَلَى غَيْرِ هَمْ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ بِأَثْقَالِنَا ... عَلَى كُلّ
فَحْلٍ هِجَانٍ قَطِمْ
جَنَبْنَا بِهِنّ جِيَادَ الخيو ... لِ قَدْ جَلّلُوهَا
جِلَالَ الْأَدَمْ
فَلَمّا أَنَاخُوا بِجَنْبَيْ صِرَارٍ ... وَشَدّوا
السّرُوجَ بَلِيّ الْحُزُمْ
فَمَا رَاعَهُمْ غَيْرُ مَعْجِ الْخُيُو ... لِ
وَالزّحْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ قَدْ دَهِمْ
فَطَارُوا سِرَاعًا وَقَدْ أُفْزِعُوا ... وَجِئْنَا
إلَيْهِمْ كَأُسْدِ الْأُجُمْ
عَلَى كُلّ سَلْهَبَةٍ فِي الصّيَا ... نِ لَا
يَشْتَكِينَ نَحُولَ السّأَمْ
وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارُ الْفُؤَادِ ... أَمِينِ
الْفُصُوصِ كَمِثْلِ الزّلَمْ
عَلَيْهَا فَوَارِسُ قَدْ عُوّدُوا ... قِرَاعَ
الْكُمَاةِ وَضَرْبَ الْبُهَمْ
مُلُوكٌ إذَا غَشَمُوا فِي الْبِلَا ... دِ لَا
يَنْكُلُونَ وَلَكِنْ قُدُمْ
فَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ وَالنّسَاءِ ...
وَأَوْلَادُهُمْ فِيهِمْ تُقْتَسَمْ
وَرِثْنَا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَهُمْ ... وَكُنّا
مُلُوكًا بِهَا لَمْ نَرِمْ
فَلَمّا أَتَانَا الرّسُولُ الرّشِيدُ ... بِالْحَقّ
وَالنّورِ بَعْدَ الظّلْمْ
قُلْنَا صَدَقْتَ رَسُولَ الْمَلِيكِ ... هَلُمّ إلَيْنَا
وَفِينَا أَقِمْ
فَنَشْهَدَ أَنّكَ عَبْدُ الْإِلَهِ ... أُرْسِلَتْ
نُورًا بِدِينٍ قِيَمْ
فَأَنَا وَأَوْلَادُنَا جُنّةٌ ... نَقِيكَ وَفِي
مَالِنَا فَاحْتَكِمْ
فَنَحْنُ أُولَئِكَ إنْ كَذّبُوك ... فَنَادِ نِدَاءً
وَلَا تَحْتَشِمْ
وَنَادِ بِمَا كُنْتَ أَخْفَيْتَهُ ... نِدَاءً جَهَارًا
وَلَا تَكْتَتِمْ
فَسَارَ الْغُوَاةُ بِأَسْيَافِهِمْ ... إلَيْهِ
يَظُنّونَ أَنْ يُخْتَرَمْ
فَقُمْنَا إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا ... نُجَالِدُ
عَنْهُ بُغَاةَ الْأُمَمْ
بِكُلّ صَقِيلٍ لَهُ مَيْعَةٌ ... رَقِيقِ الذّبّابِ
عَضُوضٍ خَذِمْ
إذَا مَا يُصَادِفُ صُمّ الْعِظَا ... مِ لَمْ يَنْبُ
عَنْهَا وَلَمْ يَنْشَلِمْ
فَذَلِكَ مَا وَرّثَتْنَا الْقُرُو ... مُ مَجْدًا
تَلِيدًا وَعِزّا أَشَمْ
إذَا مَرّ نَسْلٌ كَفَى نَسْلُهُ ... وَغَادَرَ نَسْلًا
إذَا مَا انْفَصَمْ
فَمَا إنْ مِنْ النّاسِ إلّا لَنَا ... عَلَيْهِ وَإِنْ
خَاسَ فَضْلُ النّعَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيّ بَيْتَهُ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيّهِمْ ... يُنَادُونَ
غُضْبًا بِأَمْرِ غُشُمْ
وَأَنْشَدَنِي :
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا
وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
وَبَيْتُهُ " وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارُ الْفُؤَادِ
" : عَنْهُ .
ذِكْرُ
سَنَةِ تِسْعٍ وَتَسْمِيَتُهَا سَنَةَ الْوُفُودِ
وَنُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ ، وَأَسْلَمَتْ
ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ . [ ص 560 ] قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَنّهَا
كَانَتْ تُسْمَى سَنَةَ الْوُفُودِ
.
[ انْقِيَادُ الْعَرَبِ وَإِسْلَامُهُمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا كَانَتْ الْعَرَبُ
تَرَبّصَ بِالْإِسْلَامِ أَمْرَ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ وَأَمْرَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا إمَامَ
النّاسِ وَهَادِيَهُمْ وَأَهْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ
بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَقَادَةَ الْعَرَبِ لَا يُنْكِرُونَ
ذَلِكَ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ هِيَ الّتِي نَصَبَتْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخِلَافَهُ فَلَمّا اُفْتُتِحَتْ مَكّةُ ، وَدَانَتْ
لَهُ قُرَيْشٌ ، وَدَوّخَهَا الْإِسْلَامُ وَعَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنّهُ لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا
عَدَاوَتِهِ فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللّهِ . كَمَا قَالَ عَزّ وَجَلّ أَفْوَاجًا ، يَضْرِبُونَ
إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ
يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
إِنّهُ كَانَ تَوّابًا } أَيْ فَاحْمَدْ اللّهَ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ دِينِك ،
وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا
.
قُدُومُ
وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَنُزُولُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
فَقَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وُفُودُ الْعَرَبِ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ
زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ التّمِيمِيّ ، فِي أَشْرَافِ بَنِي تَمِيمٍ ، مِنْهُمْ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التّمِيمِيّ ، وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التّمِيمِيّ
، أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، وَالْحَبْحَابُ بْنُ يَزِيدَ .
[ شَيْءٌ عَنْ الْحُتَاتِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْحُتَاتُ وَهُوَ الّذِي آخَى
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 561 ] مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ آخَى
بَيْنَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبَيْنَ
عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَبَيْنَ طَلْحَةَ بْنِ
عُبَيْدِ اللّهِ وَالزّبِيرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِي ّ
وَالْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ وَالْحُتَاتِ بْنِ يَزِيدَ الْمُجَاشِعِيّ فَمَاتَ الْحُتَاتُ عِنْدَ
مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَتِهِ فَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ مَا تَرَكَ وِرَاثَةً بِهَذِهِ الْأُخُوّةِ
فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ لِمُعَاوِيَةَ
أَبُوكَ وَعَمّي يَا مُعَاوِيَ أَوْرَثَا ... تُرَاثًا
فَيَحْتَازُ التّرَاثَ أَقَارِبُهْ
فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَكَلْتَهُ ...
وَمِيرَاثِ حَرْبٍ جَامِدٌ لَك ذَائِبُهْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
[ سَائِرُ رِجَالِ الْوَفْدِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ
نُعَيْمُ بْنُ يَزِيدَ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَقِيسُ بْنُ عَاصِمٍ ، أَخُو
بَنِي سَعْدٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَعُطَارِدُ
بْنُ حَاجِبٍ ، أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ
بْنِ زَيْدٍ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَحَدُ بَنِي
دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحُتَاتُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ
مَالِكٍ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، أَحَدُ بَنِي بَهْدَلَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ،
أَحَدُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَقِيسِ بْنِ عَاصِمٍ ، أَحَدُ
بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ،
وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ شَهِدَا مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَحَ مَكّةَ وَحُنَيْنًا
وَالطّائِفَ .
فَلَمّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ فَلَمّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ أَنْ اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمّدُ فَآذَى ذَلِكَ [ ص 562 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ صِيَاحِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ جِئْنَاك نُفَاخِرُك ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا ، قَالَ قَدْ أَذِنْت لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ فَقَامَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَالْمَنّ ، وَهُوَ أَهْلُهُ الّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا ، نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا ، وَأَيْسَرَهُ عِدّةً فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النّاسِ ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ ؟ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيُعَدّدْ مِثْلَ مَا عَدّدْنَا ، وَإِنّا لَوْ نَشَاءُ لَأَكْثَرْنَا الْكَلَامَ وَلَكِنّا نَحْيَا مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا ، وَإِنّا نُعْرَفُ بِذَلِكَ . أَقُولُ هَذَا لِأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلنَا ، وَأَمْرٍ أَفَضْلَ مِنْ أَمْرِنَا . ثُمّ جَلَسَ .
[ كَلِمَةُ ثَابِتٍ فِي الرّدّ عَلَى عُطَارِدٍ ]
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ :
قُمْ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ . فَقَامَ ثَابِتٌ فَقَالَ الْحَمْدُ
لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنّ أَمْرَهُ وَوَسِعَ كُرْسِيّهُ
عِلْمُهُ وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطّ إلّا مِنْ فَضْلِهِ ثُمّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ
أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا ، أَكْرَمَهُ
نَسَبًا ، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا ، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ
كِتَابَهُ وَأْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَكَانَ خِيرَةَ اللّهِ مِنْ الْعَالَمِينَ
ثُمّ دَعَا النّاسَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَآمَنَ بِرَسُولِ اللّهِ
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَكْرَمُ النّاسِ حَسَبًا ،
وَأَحْسَنُ النّاسِ وُجُوهًا ، وَخَيْرُ النّاسِ فِعَالًا . ثُمّ كَانَ أَوّلُ
الْخَلْقِ إجَابَةً وَاسْتَجَابَ لِلّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ
نُقَاتِلُ النّاسِ حَتّى يُؤْمِنُوا بِاَللّهِ فَمَنْ آمَنْ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ
مَنَعَ مِنّا مَالَهُ وَدَمَهُ وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللّهِ أَبَدًا ،
وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا
. أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِي
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ .
[ شِعْرُ الزّبْرِقَانِ فِي الْفَخْرِ بِقَوْمِهِ ]
فَقَامَ الزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، فَقَالَ [ ص 563 ]
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيّ يُعَادِلُنَا ... مِنّا
الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... عِنْدَ
النّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزّ يُتّبَعُ
وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ...
مِنْ الشّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ
بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سُرَاتُهُمْ ... مِنْ
كُلّ أَرْضٍ هُوِيّا ثُمّ تَصْطَنِعُ
فَنَنْحَرُ الْكُوَمَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ...
لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلَا تَرَانَا إلَى حَيّ نُفَاخِرُهُمْ ... إلّا
اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرّأْسَ يُقْتَطَعُ
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ...
فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَخْبَارُ تُسْتَمَعُ
إنّا أَبَيْنًا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إنّا كَذَلِكَ
عِنْدَ الْفَخْرِ نُرْتَفَعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : مِنّا الْمُلُوكُ
وَفِينَا تُقْسَمُ الرّبَعُ وَيُرْوَى : مِنْ كُلّ أَرْضٍ هَوَانَا ثُمّ نُتّبَعُ
رَوَاهُ لِي بَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ
يُنْكِرُهَا لِلزّبْرِقَانِ
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حَسّانُ غَائِبًا ،
فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حَسّانُ
جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنّهُ إنّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي
تَمِيمٍ ، فَخَرَجْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَقُولُ
[ ص 564 ]
مَنَعْنَا رَسُولَ اللّهِ إذْ حَلّ وَسْطَنَا ... عَلَى
أَنْفٍ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
مَنَعْنَاهُ لَمَا حَلّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ...
بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ
الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ...
وِجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
قَالَ فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا قَالَ عَرَضْت
فِي قَوْلِهِ وَقُلْت عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ . قَالَ فَلَمّا فَرَغَ
الزّبْرِقَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَسّانَ
بْنِ ثَابِتٍ قُمْ يَا حَسّانُ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِيمَا قَال فَقَامَ حَسّانٌ فَقَالَ
[ ص 565 ]
إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ
بَيّنُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ
يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ...
تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلّ الْخَيْرِ يَصْطَنِعُ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمْ ... أَوْ
حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ
الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ
إنْ كَانَ فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمْ ... فَكُلّ
سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لَا يَرْقَعُ النّاسَ مَا أَوْهَتَ أَكَفّهُمْ ...
عِنْدَ الدّفّاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ...
أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْي عِفّتُهُمْ ... لَا
يَنْطَبَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ
لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ... وَلَا
يَمَسّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ... كَمَا
يَدُبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرِعُ
نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ...
إذَا الزّعَانُفُ مِنْ أَظْفَارهَا خَشَعُوا
لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمْ ... وَإِنْ
أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ وَلَا هُلُعُ
كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتُ مُكْتَنِعٌ ...
أُسْدٌ بِحِلْيَةِ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ...
وَلَا يَكُنْ هَمّكَ الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا
فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ...
شَرّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا
تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ
أَهْدِي لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا
أُحِبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... إنْ جَدّ
بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ :
يَرْضَى بِهَا كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ...
تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الّذِي شَرَعُوا
[ شِعْرٌ آخَرُ لِلزّبْرِقَانِ ]
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ بِالشّعْرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ : أَنّ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ لَمّا
قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَفْدِ بَنِي
تَمِيمٍ قَامَ فَقَالَ [ ص 566
]
أَتَيْنَاكَ كَيْمَا يَعْلَمَ النّاسُ فَضْلَنَا ...
إذَا احْتَفَلُوا عِنْدَ احْتِضَارِ الْمَوَاسِمِ
بِأَنّا فُرُوعُ النّاسِ فِي كُلّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْ
لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
وَأَنّا نَذُودُ الْمُعْلِمِينَ إذَا انْتَخَوْا ...
وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَصْيَدِ الْمُتَفَاقِمِ
وَأَنّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلّ غَارَةٍ ... نُغِيرُ
بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ
[ شعر آخر لحسان في الرد على الزبرقان ]
فقام حسان
بن ثابت فأجابه ، فقال :
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ...
وِجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النّبِيّ مُحَمّدًا ... عَلَى
أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
بِحَيّ حَرِيدٍ أَصْلُهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ
الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
نَصَرْنَاهُ لَمّا حَلّ وَسْطَ دِيَارِنَا ...
بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
جَعَلْنَا بَنِينَا دُونَهُ وَبَنَاتَنَا ... وَطِبْنَا
لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا النّاسَ حَتّى تَتَابَعُوا ... عَلَى
دِينهِ بِالْمُرْهَفَاتِ الصّوَارِمِ
وَنَحْنُ وَلَدْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَهَا ...
وَلَدْنَا نَبِيّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إنّ فَخْرَكُمْ ...
يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُمْ ... لَنَا
خَوَلٌ مَا بَيْنَ ظِئْرٍ وَخَادِمِ ؟
فَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ...
وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ
فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ نِدّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا
تَلْبَسُوا زِيّا كَزِيّ الْأَعَاجِمِ
[ إسْلَامُهُمْ وَتَجْوِيزُ الرّسُولِ إيّاهُمْ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ بْنُ
ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَأَبِي ، إنّ هَذَا
الرّجُلَ لَمُؤَتّى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا ، وَلَشَاعِرُهُ
أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا ، وَلِأَصْوَاتِهِمْ أَحْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا .
فَلَمّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا ، وَجَوّزَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ
.
[ شِعْرُ ابْنِ الْأَهْتَمِ فِي هِجَاءِ قِيسٍ
لِتَحْقِيرِهِ إيّاهُ ]
وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ قَدْ خَلّفَهُ
الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ سِنّا ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ
عَاصِمٍ ، وَكَانَ يُبْغِضُ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ
قَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنّا فِي رِحَالِنَا ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ وَأُزْرَى بِهِ
فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ
فَقَالَ أَنّ قَيْسًا قَالَ ذَلِكَ يَهْجُوهُ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ حِينَ
بَلَغَهُ [ ص 567 ]
ظَلِلْتُ مَفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ...
عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبْ
سُدْنَاكُمْ سُوْدُدًا رَهْوًا وَسُوْدُدُكُمْ ... بَادٍ
نَوَاجِذُهُ مُقْعٍ عَلَى الذّنَبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَقِيَ بَيْتٌ وَاحِدٌ
تَرَكْنَاهُ لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِيهِمْ نَزَلَ
مِنْ الْقُرْآنِ { إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ
أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ }
قِصّةُ
عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ فِي الْوِفَادَةِ عَنْ بَنِي
عَامِرٍ
وَقَدَمِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَفْدُ بَنِي عَامِرٍ فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ [ ص 568 ]
وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَجَبّارُ بْنُ
سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةُ رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ
وَشَيَاطِينَهُمْ .
[ تَدْبِيرُ عَامِرٍ لِلْغَدْرِ بِالرّسُولِ ]
فَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَدُوّ اللّهِ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ
وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ يَا عَامِرُ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ .
قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْتُ آلَيْتُ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتّى تَتْبَعَ الْعَرَبُ
عَقِبِي ، أَفَأَنَا أَتْبَعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ قَالَ
لِأَرْبَدَ إذَا قَدِمْنَا عَلَى الرّجُلِ فَإِنّي سَأَشْغَلُ عَنْك وَجْهَهُ
فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسّيْفِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ : يَا
مُحَمّدُ خَالِنِي ، قَالَ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ .
قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي . وَجَعَلَ يُكَلّمُهُ وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ
مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ فَجَعَلَ أَرْبَدُ لَا يُحِيرُ شَيْئًا ؛ قَالَ فَلَمّا رَأَى
عَامِرُ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي قَالَ لَا ، حَتّى
تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَأَمْلَأَنّهَا
عَلَيْك خَيْلًا وَرِجَالًا ؛ فَلَمّا وَلّى قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ . فَلَمّا خَرَجُوا
مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرٌ
لِأَرْبَدَ وَيْلَك يَا أَرْبَدُ أَيْنَ مَا كُنْت أَمَرْتُك بِهِ ؟ وَاَللّهِ مَا
كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفَ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْك . وَاَيْمُ اللّهِ
لَا أَخَافُك بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا . قَالَ لَا أَبَا لَك لَا تَعْجَلْ عَلَيّ
وَاَللّهِ مَا هَمَمْت بِاَلّذِي أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ أَمْرِهِ إلّا دَخَلْتَ
بَيْنِي وَبَيْنَ الرّجُلِ حَتّى مَا أَرَى غَيْرَك ، أَفَأَضْرِبك بِالسّيْفِ ؟
[ مَوْتُ عَامِرٍ بِدُعَاءِ الرّسُولِ عَلَيْهِ ]
وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ حَتّى إذَا
كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ بَعَثَ اللّهُ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ
الطّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ اللّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي
سَلُولَ فَجَعَلَ [ ص 569 ] بَنِي عَامِرٍ أَغُدّةٌ كَغُدّةِ الْبَكْرِ فِي بَيْتِ
امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَغُدّةٌ كَغُدّةِ الْإِبِلِ
وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ
.
[ مَوْتُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةِ وَمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي عَامِرٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ
وَارَوْهُ حِينَ قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ شَاتِينَ فَلَمّا قَدِمُوا
أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ فَقَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَرْبَدُ ؟ قَالَ لَا شَيْءَ
وَاَللّهِ لَقَدْ دَعَانَا إلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدِدْتُ أَنّهُ عِنْدِي
الْآنَ فَأَرْمِيَهُ بِالنّبْلِ حَتّى أَقْتُلَهُ فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمِ
أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمْلٌ لَهُ يَتْبَعُهُ فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا . وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا
لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمّهِ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ
وَجَلّ فِي عَامِرٍ وَأَرْبَدَ { اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَمَا
تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } إلَى قَوْلِهِ وَمَا { لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَالٍ } قَالَ الْمُعَقّبَاتُ هِيَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ يَحْفَظُونَ
مُحَمّدًا . ثُمّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَمَا قَتَلَهُ اللّهُ بِهِ فَقَالَ { وَيُرْسِلُ
الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } إلَى قَوْلِهِ { شَدِيدُ الْمِحَالِ }
[ شِعْرُ لَبِيَدٍ فِي بُكَاءِ أَرْبَدَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ لَبِيدٌ يَبْكِي
أَرْبَدَ [ ص 570 ]
مَا إنْ تُعَدّي الْمَنُونُ مِنْ أَحَدٍ ... لَا وَالِدٍ
مُشْفِقٍ وَلَا وَلَدِ
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ
نَوْءَ السّمَاكِ وَالْأَسَدِ
فَعَيْنٍ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... قُمْنَا
وَقَامَ النّسَاءُ فِي كَبَدِ
إنْ يَشْغَبُوا لَا يُبَالِ شَغْبَهُمْ ... أَوْ
يَقْصِدُوا فِي الحكوم يَقْتَصِدْ
حُلْوٌ أَرِيَبٌ وَفِي حَلَاوَتِهِ ... مُرّ لَطِيفُ
الْأَحْشَاءِ وَالْكَبِدِ
وَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... أَلْوَتْ
رِيَاحُ الشّتَاءِ بِالْعَضَدِ
وَأَصْبَحَتْ لَاقِحًا مُصَرّمَةً ... حَتّى تَجَلّتْ
غَوَابِرُ الْمُدَدِ
أَشْجَعُ مِنْ لَيْثِ غَابَةٍ لَحِمٍ ... ذُو نَهْمَةٍ
فِي الْعُلَا وَمُنْتَقَدِ
لَا تَبْلُغُ الْعَيْنُ كُلّ نَهْمَتِهَا ... لَيْلَةَ
تُمْسَى الْجِيَادُ كَالْقِدَدِ
الْبَاعِثُ النّوْحَ فِي مَآتِمِهِ ... مِثْلَ الظّبَاءِ
الْأَبْكَارِ بِالْجَرَدِ
فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصّوَاعِقُ ... بِالْفَارِسِ
يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النّجُدِ
وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبِ إذَا ... جَاءَ
نَكِيبًا وَإِنْ يَعُدْ يَعُدْ
يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ وَالسّؤَالِ كَمَا ... يُنْبِتُ
غَيْثُ الرّبِيعِ ذُو الرّصَدِ
كُلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُمْ ... قُلّ وَإِنْ
أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ
إنْ يُغْبَطُوا يَهْبِطُوا وَإِنْ أُمِرُوا ... يَوْمًا
فَهُمْ لِلْهَلَاكِ وَالنّفَدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَيْتُهُ " وَالْحَارِبِ
الْجَابِرِ الْحَرِيبِ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَبَيْتُهُ " يَعْفُو
عَلَى الْجَهْدِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 571 ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ
أَلَا ذَهَبَ الْمُحَافِظُ وَالْمُحَامِي ... وَمَانِعُ
ضَيْمِهَا يَوْمَ الْخِصَامِ
وَأَيْقَنْتُ التّفَرّقَ يَوْمَ قَالُوا ... تُقُسّمَ
مَالُ أَرْبَد بِالسّهَامِ
تُطِيرُ عَدَائِدَ الْأَشْرَاكِ شَفْعًا ... وَوِتْرًا
وَالزّعَامَة لِلْغُلَامِ
فَوَدّعَ بِالسّلَامِ أَبَا حُرَيْزٍ ... وَقَلّ وَدَاعُ
أَرْبَدَ بِالسّلَامِ
وَكُنْتَ إمَامَنَا وَلَنَا نِظَامًا ... وَكَانَ
الْجَزْعُ يُحْفَظُ بِالنّظَامِ
وَأَرْبَدُ فَارِسُ الْهَيْجَا إذَا مَا ... تَقَعّرَتْ
الْمَشَاجِرُ بِالْفِئَامِ
إذَا بَكَرَ النّسَاءُ مُرَدّفَاتٍ ... حَوَاسِرَ لَا
يُجِئْنَ عَلَى الْخِدَامِ
فَوَاءَلَ يَوْمَ ذَلِكَ مَنْ أَتَاهُ ... كَمَا وَأَلَ
الْمُحِلّ إلَى الْحَرَامِ
وَيَحْمَدُ قِدْرَ أَرْبَد مَنْ عَرَاهَا ... إذَا مَا
ذُمّ أَرْبَابُ اللّحَامِ
وَجَارَتُهُ إذَا حَلّتْ لَدَيْهِ ... لَهَا نَفَلٌ
وَحَظّ مِنْ سَنَامِ
فَإِنْ تَقْعُدْ فَمُكْرَمَةٌ حَصَانٌ ... وَإِنْ
تَظْعَنْ فَمُحْسِنَةُ الْكَلَامِ
وَهَلْ حُدّثْتَ عَنْ أَخَوَيْنِ دَامَا ... عَلَى
الْأَيّامِ إلّا ابْنَيْ شَمَامِ
وَإِلّا الْفَرْقَدَيْنِ وَآلَ نَعْشٍ ... خَوَالِدَ مَا
تُحَدّثُ بِانْهِدَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص
572 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ
انْعَ الْكَرِيمَ لِلْكَرِيمِ أَرْبَدَا ... انْعَ
الرّئِيسَ وَاللّطِيفَ كَبَدَا
يُحْذِي وَيُعْطِي مَالَهُ لِيُحْمَدَا ... أُدْمًا
يُشَبّهْنَ صُوَارًا أَبَدَا
السّابِلَ الْفَضْلَ إذَا مَا عُدّدَا ... وَيَمْلَأُ
الْجَفْنَةَ مَلْئًا مَدَدَا
رِفْهَا إذَا يَأْتِي ضَرِيكٌ وَرَدَا ... مِثْلُ الّذِي
فِي الْغِيلِ يَقْرُو جُمُدَا
يَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ أَنْ يُوعَدَا ...
أَوْرَثْتَنَا تُرَاثَ غَيْرِ أَنْكَدَا
غِبّا وَمَالًا طَارِفًا وَوَلَدَا ... شَرْخًا صُقُورًا
يَافِعًا وَأَمْرَدَا
وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
لَنْ تُفْنِيَا خَيْرَاتِ أَرْ ... بَدَ فَابْكِيَا
حَتّى يَعُودَا
قُولَا هُوَ الْبَطَلُ الْمُحَا ... مِي حِينَ يَكْسُونَ
الْحَدِيدَا
وَيَصُدّ عَنّا الظّالِمِي ... نَ إذَا لَقِينَا
الْقَوْمَ صِيدَا
فَاعْتَاقَهُ رَبّ الْبَرِيّ ... ةِ إذْ رَأَى أَنْ لَا
خُلُودًا
فَثَوَى وَلَمْ يُوجَعْ وَلَمْ ... يُوصَبْ وَكَانَ هُوَ
الْفَقِيدَا
[ ص 573 ] وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
يُذَكّرُنِي بِأَرْبَدَ كُلّ خَصْمٍ ... أَلَدّ تَخَالُ
خُطّتَهُ ضِرَارَا
إذَا اقْتَصَدُوا فَمُقْتَصِدٌ كَرِيمٌ ... وَإِنْ
جَارُوا سَوَاءُ الْحَقّ جَارَا
وَيَهْدِي الْقَوْمَ مُطّلِعًا إذَا مَا ... دَلِيلُ
الْقَوْمِ بِالْمَوْمَاةِ حَارَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : آخِرُهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
أَصْبَحْتُ أَمْشِي بَعْدَ سَلْمَى بْنِ مَالِكٍ ...
وَبَعْدَ أَبِي قَيْسٍ وَعُرْوَةَ كَالْأَجَبْ
إذَا مَا رَأَى ظِلّ الْغُرَابِ أَضَجّهُ ... حِذَارًا
عَلَى بَاقِي السّنَاسِنِ وَالْعَصَبْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي
أَبْيَاتٍ لَهُ .
[ قُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا عَنْ بَنِي سَعْدِ
بْنِ بَكْرٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ
لَهُ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ .
[ سُؤَالُهُ الرّسُولَ أَسْئِلَةً ثُمّ إسْلَامُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ ، مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ،
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ [ ص 574 ] بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرِ ضِمَامِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمَ
عَلَيْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمّ عَقَلَهُ ثُمّ دَخَلَ
الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي
أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ
فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيّكُمْ ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ
أَمُحَمّدٌ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ يَا بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، إنّي سَائِلُك
وَمُغَلّظٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنّ فِي نَفْسِك ، قَالَ لَا
أَجِدُ فِي نَفْسِي ، فَسَلْ عَمّا بَدَا لَك . قَالَ أَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ
مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ بَعَثَك
إلَيْنَا رَسُولًا ؟ قَالَ اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك
وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ
أَمَرَك أَنْ تَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ،
وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟
قَالَ اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ
قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ أَمَرَك أَنْ نُصَلّيَ هَذِهِ
الصّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؟ قَالَ اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ ثُمّ جَعَلَ يَذْكُرُ
فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً . الزّكَاةَ وَالصّيَامَ وَالْحَجّ
وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلّهَا ، يَنْشُدُهُ عِنْدَ كُلّ فَرِيضَةٍ مِنْهَا
كَمَا يَنْشُدُهُ فِي الّتِي قَبْلَهَا ، حَتّى إذَا فَرَغَ قَالَ فَإِنّي
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولَ اللّهِ
وَسَأُؤَدّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتنِي عَنْهُ ثُمّ لَا
أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ . ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا . قَالَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ
دَخَلَ الْجَنّةَ
[ دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ لِلْإِسْلَامِ ]
قَالَ فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمّ
خَرَجَ حَتّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَكَانَ أَوّلُ مَا
تَكَلّمَ بِهِ أَنْ قَالَ بِئْسَ اللّاتُ وَالْعُزّى قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ
اتّقِ الْبَرَصَ اتّقِ الْجُذَامَ اتّقِ الْجُنُونَ قَالَ وَيْلَكُمْ إنّهُمَا وَاَللّهِ
لَا يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ كِتَابًا أَسْتَنْقِذُكُمْ بِهِ مِمّا كُنْتُمْ فِيهِ وَإِنّي أَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي
حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا . [ ص 575 ] قَالَ يَقُولُ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ
مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ .
[ قُدُومُ الْجَارُودِ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقِيسِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَارُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنْشٍ أَخُو
عَبْدِ الْقَيْسِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجَارُودُ بْنُ بِشْرِ بْنِ
الْمُعَلّى فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا .
[ ضَمَانُ الرّسُولِ دِينَهُ وَإِسْلَامُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ
عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَلّمَهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ إلَيْهِ وَرَغّبَهُ فِيهِ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّي
قَدْ كُنْت عَلَى دِينٍ وَإِنّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِك ، أَفَتَضْمَنُ لِي
دَيْنِي ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ
أَنَا ضَامِنٌ أَنْ قَدْ هَدَاك اللّهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ . قَالَ
فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ ثُمّ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُمْلَانَ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ
عَلَيْهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالّ
مِنْ ضَوَالّ النّاسِ أَفَنَتَبَلّغُ عَلَيْهَا إلَى بِلَادِنَا ؟ قَالَ لَا ، إيّاكَ
وَإِيّاهَا ، فَإِنّمَا تِلْكَ حَرَقُ النّارِ .
[ مَوْقِفُهُ مِنْ قَوْمِهِ فِي الرّدّةِ ]
فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الْجَارُودُ رَاجِعًا إلَى
قَوْمِهِ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ حَتّى هَلَكَ وَقَدْ
أَدْرَكَ الرّدّةَ فَلَمّا رَجَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ
إلَى دِينِهِمْ الْأَوّلِ مَعَ الْغَرُورِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ
الْمُنْذِرِ ، قَامَ الْجَارُودُ فَتَكَلّمَ فَتَشَهّدَ [ ص 576 ] وَدَعَا إلَى
الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ،
وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأُكَفّرُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَأَكْفِي مَنْ لَمْ يَشْهَدْ .
[ إسْلَامُ ابْنِ سَاوَى ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ قَبْلَ
فَتْحِ مَكّةَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ
إسْلَامُهُ ثُمّ هَلَكَ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَبْلَ رِدّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَالْعَلَاءُ عِنْدَهُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ .
[ قُدُومُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَعَهُمْ مُسَيْلِمَةُ
الْكَذّابِ ]
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ
الْكَذّابُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ وَيُكَنّى أَبَا ثُمَامَةَ .
[ مَا كَانَ مِنْ الرّسُولِ لِمُسَيْلِمَةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ
بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ
فَحَدّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : أَنّ بَنِي حَنِيفَةَ
أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتُرهُ بِالثّيَابِ
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ .
مَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعَفِ النّخْلِ فِي رَأْسِهِ خُوصَاتٌ قَلّمَا انْتَهَى إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثّيَابِ
كَلّمَهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَوْ سَأَلْتنِي هَذَا الْعَسِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَدْ حَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَنّ
حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا . زَعَمَ أَنّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَلّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي
رِحَالِهِمْ فَلَمّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا مَكَانَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّا قَدْ خَلّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَفِي رِكَابِنَا
يَحْفَظُهَا لَنَا ، قَالَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ [ ص 577 ] صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ وَقَالَ أَمَا إنّهُ
لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا ؛ أَيْ لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ
الّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ ارْتِدَادُهُ وَتُنَبّؤُهُ ]
قَالَ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءُوهُ بِمَا أَعْطَاهُ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى
الْيَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ اللّهِ وَتَنَبّأَ وَتَكَذّبَ لَهُمْ وَقَالَ إنّي
قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَهُ . وَقَالَ لِوَفْدِهِ الّذِينَ كَانُوا
مَعَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ
مَكَانًا ؛ مَا ذَاكَ إلّا لَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ
مَعَهُ ثُمّ جَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ الْأَسَاجِيعَ وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا
يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ
" لَقَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى الْحُبْلَى ،
أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى ، مِنْ بَيْنَ صِفَاقٍ وَحَشًى " .
وَأَحَلّ لَهُمْ الْخَمْرَ وَالزّنَا ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ الصّلَاةَ وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهُ نَبِيّ
، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ حَنِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ
كَانَ .
[ قُدُومُ زَيْدِ الْخَيْلِ فِي وَفْدِ طَيّئٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ طَيّئٍ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْلِ ، وَهُوَ
سَيّدُهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ كَلّمُوهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي مَنْ لَا
أَتّهِمُ مِنْ رِجَالِ طَيّئٍ مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بِفَضْلِ ثُمّ
جَاءَنِي ، إلّا رَأَيْته دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ إلّا زَيْدَ الْخَيْلِ :
فَإِنّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلّ مَا كَانَ فِيهِ ثُمّ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ الْخَيْرِ وَقَطَعَ لَهُ فَيْدًا وَأَرَضِينَ
مَعَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ . فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 578 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ فَإِنّهُ قَالَ قَدْ سَمّاهَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمِ غَيْرِ الْحُمّى ،
وَغَيْرِ أُمّ مَلْدَمٍ فَلَمْ يَثْبُتْهُ - فَلَمّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ
إلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ فَرَدَةَ ، أَصَابَتْهُ الْحُمّى بِهَا
فَمَاتَ وَلَمّا أَحَسّ زَيْدٌ بِالْمَوْتِ قَالَ
أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً ...
وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرَدَةَ مُنْجِدِ
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْتُ لَعَادَنِي ...
عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يَجْهَد
فَلَمّا مَاتَ عَمَدَتْ امْرَأَتُهُ إلَى مَا كَانَ
مَعَهُ مِنْ كُتُبِهِ الّتِي قَطَعَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَحَرّقَتْهَا بِالنّارِ
.
[ أَمْرُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ ]
وَأَمّا عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ فَكَانَ يَقُولُ فِيمَا
بَلَغَنِي : مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنّي ، أَمَا أَنَا فَكُنْت
امْرَأً شَرِيفًا ، وَكُنْت نَصْرَانِيّا ، وَكُنْت أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ
فَكُنْتُ فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ وَكُنْت مَلِكًا فِي قَوْمِي ، لِمَا كَانَ
يُصْنَعُ بِي . فَلَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَرِهْته ، فَقُلْت لِغُلَامِ كَانَ لِي عَرَبِيّ وَكَانَ رَاعِيًا لِإِبِلِي :
لَا أَبَا لَك ، أَعْدِدْ لِي مِنْ إبِلِي أَجَمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا ،
فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبًا مِنّي ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِجَيْشِ لِمُحَمّدِ قَدْ
وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنّي ؛ فَفَعَلَ ثُمّ إنّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ
فَقَالَ يَا عَدِيّ ، مَا كُنْتَ صَانِعًا إذَا غَشِيَتْك خَيْلُ مُحَمّدٍ
فَاصْنَعْهُ الْآنَ فَإِنّي قَدْ رَأَيْت رَايَاتٍ فَسَأَلْت عَنْهَا ، فَقَالُوا : هَذِهِ جُيُوشُ
مُحَمّدٍ . قَالَ فَقُلْت : فَقَرّبْ إلَيّ أَجْمَالِي ، فَقَرّبَهَا ،
فَاحْتَمَلْت بِأَهْلِي وَوَلَدِي ، ثُمّ قُلْت : أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنْ
النّصَارَى بِالشّامِ [ ص 579 ] الْجَوْشِيّةَ ، وَيُقَالُ الْحَوْشِيّةُ فِيمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَخَلّفْت بِنْتًا لِحَاتِمِ فِي الْحَاضِرِ فَلَمّا
قَدِمْت الشّامَ أَقَمْتُ بِهَا
.
[ أَسْرُ الرّسُولِ ابْنَةَ حَاتِمٍ ثُمّ إطْلَاقُهَا ]
وَتُخَالِفُنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ فَقُدِمَ بِهَا
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طَيّئٍ
وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَرَبِي إلَى
الشّامِ ، قَالَ فَجُعِلَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ كَانَتْ
السّبَايَا يُحْبَسْنَ فِيهَا ، فَمَرّ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَامَتْ إلَيْهِ وَكَانَتْ امْرَأَةً جَزْلَةً فَقَالَتْ يَا رَسُولَ
اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ
عَلَيْك . قَالَ وَمَنْ وَافِدُك ؟ قَالَتْ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ . قَالَ الْفَارّ
مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَتْ ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَرَكَنِي ، حَتّى إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ مَرّ بِي ،
فَقُلْت لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ . قَالَتْ
حَتّى إذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرّ بِي وَقَدْ يَئِسْت مِنْهُ فَأَشَارَ إلَيّ
رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ قَوْمِي فَكَلّمِيهِ قَالَتْ فَقُمْت إلَيْهِ فَقُلْت :
يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ
اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَعَلْتُ فَلَا
تَعْجَلِي بِخُرُوجِ حَتّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِك مَنْ يَكُونُ لَك ثِقَةً حَتّى
يُبَلّغُك إلَى بِلَادِك ، ثُمّ آذِنِينِي . فَسَأَلْت عَنْ الرّجُلِ الّذِي
أَشَارَ إلَيّ أَنْ أُكَلّمَهُ فَقِيلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ
اللّهِ عَلَيْهِ وَأَقَمْت حَتّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيّ أَوْ قُضَاعَةَ ،
قَالَتْ وَإِنّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشّامِ . قَالَتْ فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ
مِنْ قَوْمِي ، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ . قَالَتْ فَكَسَانِي رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَمَلَنِي ، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً فَخَرَجْت
مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ [ ص 580 ]
[ إشَارَةُ ابْنَةِ حَاتِمٍ عَلَى عَدِيّ بِالْإِسْلَامِ ]
قَالَ عَدِيّ : فَوَاَللّهِ إنّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي
، إذْ نَظَرْت إلَى ظَعِينَةٍ تَصُوبُ إلَيّ تُؤْمِنَا ، قَالَ فَقُلْت ابْنَةُ
حَاتِمٍ قَالَ فَإِذَا هِيَ هِيَ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيّ انْسَحَلَتْ تَقُول : الْقَاطِعُ
الظّالِمُ احْتَمَلْتَ بِأَهْلِك وَوَلَدِك ، وَتَرَكْت بَقِيّةَ وَالِدِك
عَوْرَتَك ، قَالَ قُلْت : أَيْ أُخَيّةُ لَا تَقُولِي إلّا خَيْرًا ، فَوَاَللّهِ
مَا لِي مِنْ عُذْرٍ لَقَدْ صَنَعْتُ مَا ذَكَرْت . قَالَ ثُمّ نَزَلَتْ
فَأَقَامَتْ عِنْدِي ، فَقُلْت لَهَا
: وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً مَاذَا تَرَيْنَ فِي
أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ ؟ قَالَتْ أَرَى وَاَللّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا ،
فَإِنْ يَكُنْ الرّجُلُ نَبِيّا فَلِلسّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ وَإِنْ يَكُنْ
مَلِكًا فَلَنْ تَذِلّ فِي عِزّ الْيَمَنِ ، وَأَنْتَ أَنْتَ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ إنّ
هَذَا الرّأْيُ .
[ قُدُومُ عَدِيّ عَلَى الرّسُولِ وَإِسْلَامُهُ ]
قَالَ [
ص 581 ] فَخَرَجْت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ
فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ فَقُلْت : عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ ؛
فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلَى
بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ
ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَرْقَفْتُهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي
حَاجَتِهَا ، قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي
: وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكِ قَالَ ثُمّ مَضَى بِي
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ
تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةٍ لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ فَقَالَ اجْلِسْ
عَلَى هَذِهِ قَالَ قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ
أَنْتَ فَجَلَسْت عَلَيْهَا ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ
ثُمّ قَالَ إيِهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا ؟ قَالَ قُلْت :
بَلَى . ( قَالَ ) : أَوْ لَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ ؟ قَالَ
قُلْت : بَلَى ، قَالَ فَإِنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك ؛ قَالَ
قُلْت : أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ
ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ
مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ
فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدُ مَنْ يَأْخُدُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ
دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ
فَوَاَللّهِ لِيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرَجُ مِنْ
الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ
وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ
وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَاَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنّ تَسْمَعَ
بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ
فَأَسْلَمْت
[ وُقُوعُ مَا وَعَدَ بِهِ الرّسُولُ عَدِيّا ]
وَكَانَ عَدِيّ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ اثْنَتَانِ
وَبَقِيَتْ الثّالِثَةُ وَاَللّهِ لَتَكُونَنّ قَدْ رَأَيْت الْقُصُورَ الْبِيضَ
مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ وَقَدْ رَأَيْت الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ
الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتّى تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ وَاَيْمُ
اللّهِ لَتَكُونَنّ الثّالِثَةُ لَيَفِيضَنّ الْمَالُ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ .
[ قُدُومُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ
الْمُرَادّيّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا
لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، وَمُبَاعِدًا لَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .
[ يَوْمُ الرّدْمِ بَيْنَ مُرَادَ وَهَمْدَانَ ]
وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مُرَادَ
وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادَ مَا أَرَادُوا ،
حَتّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الرّدْمِ ، فَكَانَ الّذِي
قَادَ هَمْدَانَ إلَى مُرَادَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الّذِي قَادَ هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَالِكُ بْنُ
حَرِيمٍ الْهَمْدَانِيّ .
[ شِعْرُ فَرْوَةَ فِي يَوْمِ الرّدْمِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ
فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ . : [ ص 582
]
مَرَرْنَا عَلَى لُفَاةَ وَهُنّ خَوْصٌ ... يُنَازِعْنَ
الْأَعِنّةَ يَنْتَحِينَا
فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلّابُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ
نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلّبِينَا
وَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكُنّ ... مَنَايَانَا
وَطُعْمَةُ آخَرِينَا
كَذَاكَ الدّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكُرّ
صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينًا
فَبَيْنَا مَا نُسَرّ بِهِ وَنَرْضَى ... وَلَوْ
لُبِسَتْ غَضَارَتُهُ سِنِينَا
إذْ انْقَلَبَتْ بِهِ كَرّاتُ دَهْرٍ ... فَأَلْفَيْتَ
الْأُلَى غُبِطُوا طَحِينًا
فَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدّهْرِ مِنْهُمْ ... يَجِدْ
رَيْبَ الزّمَانِ لَهُ خَئُونًا
فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إذَنْ خَلَدْنَا ... وَلَوْ
بَقِيَ الْكِرَامُ إذَنْ بَقِينَا
فَأَفْنَى ذَلِكُمْ سَرَوَاتِ قَوْمِي ... كَمَا أَفْنَى
الْقُرُونَ الْأَوّلِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ بَيْتٍ مِنْهَا ،
وَقَوْلُهُ " فَإِنْ نَغْلِبْ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
[ قُدُومُ فَرْوَةَ عَلَى الرّسُولِ وَإِسْلَامُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا تَوَجّهَ فَرْوَةُ بْنُ
مُسَيْكٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا
لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، قَالَ
لَمّا رَأَيْتُ مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعَرَضَتْ ... كَالرّجُلِ
خَانَ الرّجُلَ عَرَقَ نَسَائِهَا
قَرّبْتُ رَاحِلَتِي مُحَمّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا
وَحُسْنَ ثَرَائِهَا
[ ص 583 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو
عُبَيْدَةَ " أَرْجُو فَوَاضِلَهُ وَحُسْنَ ثَنَائِهَا " . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : يَا
فَرْوَةُ هَلْ سَاءَك مَا أَصَابَ قَوْمَك يَوْمَ الرّدْمِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ مَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرّدْمِ لَا
يَسُوءُهُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ
أَمَا إنّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَك فِي الْإِسْلَامِ إلّا خَيْرًا
وَاسْتَعْمَلَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مُرَادَ وَزُبَيْدٍ
وَمَذْحِجٍ كُلّهَا ، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى
الصّدَقَةِ فَكَانَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ حَتّى تَوَفّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
قُدُومُ
عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ،
فَأَسْلَمَ وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ
حِينَ انْتَهَى إلَيْهِمْ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَا قَيْسُ ، إنّك سَيّدُ قَوْمِك ، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ
يُقَالُ لَهُ مُحَمّدٌ قَدْ خَرَجَ بِالْحِجَازِ ، يَقُولُ إنّهُ نَبِيّ ،
فَانْطَلِقْ بِنّا إلَيْهِ حَتّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ فَإِنْ كَانَ نَبِيّا كَمَا
يَقُولُ فَإِنّهُ لَنْ يَخْفَى عَلَيْك ، وَإِذَا لَقَيْنَاهُ اتّبَعْنَاهُ وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْنَا عِلْمَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ قَيْسٌ ذَلِكَ وَسَفّهُ
رَأْيَهُ فَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ وَصَدّقَهُ وَآمَنَ بِهِ .
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ أَوْعَدَ عَمْرًا ، وَتَحَطّمْ
عَلَيْهِ وَقَالَ خَالَفَنِي وَتَرَكَ رَأْيِي ؛ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ
يَكْرِبَ فِي ذَلِكَ [ ص 584 ]
أَمَرْتُكَ يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَادِيًا
رُشْدَهْ
أَمَرْتُكَ بِاتّقَاءِ ... اللّهِ وَالْمَعْرُوفِ
تَتّعِدُهْ
خَرَجْتُ مِنْ الْمُنَى مِثْلَ الْحُمَيّرِ غَرّهُ
وَتِدُهْ ... تَمُنّانِي عَلَى فَرَسٍ عَلَيْهِ جَالِسًا أُسْدُهْ
عَلَيّ مُفَاضَةٌ كَالنّهْيِ أَخَلَصَ مَاءَهُ جَدَدُهْ ...
تَرُدّ الرّمْحَ مُنْثَنَى السّنَانِ عَوَائِرًا قِصَدُهْ
فَلَوْ لَاقَيْتَنِي لَلَقِيتُ لَيْثًا فَوْقَهُ
لِبَدُهْ ... تُلَاقِي شَنْبَثًا شَثْنَ الْبَرَاثِنِ نَاشِزًا كَتَدُهْ
يُسَامَى الْقِرْنَ إنْ قِرْنٌ ... تَيَمّمُهُ
فَيَعْتَضِدُهْ
فَيَأْخُذُهُ فَيَرْفَعُهُ ... فَيَخْفِضُهُ
فَيَقْتَصِدُهْ
فَيَدْمَغُهُ فَيَحْطِمُهُ ... فَيَخْضِمهُ
فَيَزْدَرِدُهْ
ظَلُومَ الشّرَكِ فِيمَا ... أَحْرَزَتْ أَنْيَابُهُ
وَيَدُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
أَمَرْتُكَ يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَيّنًا
رُشْدُهُ
أَمَرْتُكَ بِاتّقَاءِ اللّهِ ... تَأْتِيهِ
وَتَتّعِدُهْ
فَكُنْت كَذِي الْحُمَيّرِ غَرْ ... رَه مِمّا بِهِ
وَتِدُهْ
وَلَمْ يَعْرِفْ سَائِرَهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَأَقَامَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ وَعَلَيْهِمْ
[ ص 585 ] فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ . فَلَمّا تَوَفّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ ارْتَدّ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ ، وَقَالَ حِينَ ارْتَدّ
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شَرّ مُلْكٍ ... حِمَارًا
سَافَ مُنْخُرَهُ بِثَفْرِ
وَكُنْتَ إذَا رَأَيْتَ أَبَا عُمَيْرٍ ... تَرَى
الْحُوَلَاءَ مِنْ خَبَثٍ وَغَدْرٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِثَفْرِ "
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ .
قُدُومُ
الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ ، فِي وَفْدِ كِنْدَةَ ،
فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ بْنُ شِهَابٍ أَنّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ ، فَدَخَلُوا عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَسْجِدَهُ وَقَدْ رَجّلُوا
جُمَمَهُمْ وَتَكَحّلُوا ، وَعَلَيْهِمْ جُبَبُ الْحِبَرَةِ وَقَدْ كَفّفُوهَا
بِالْحَرِيرِ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ أَلَمْ تُسْلِمُوا ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ فَمَا بَالُ هَذَا
الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ ؛ قَالَ فَشَقّوهُ مِنْهَا ، فَأَلْقَوْهُ
[ انْتِسَابُ الْوَفْدِ إلَى آكِلِ الْمُرَارِ ]
ثُمّ قَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : يَا رَسُولَ
اللّهِ نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، وأنت ابن آكل الْمُرَارِ قَالَ فَتَبَسّمَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ نَاسَبُوا بِهَذَا النّسَبِ
الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَرَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَكَانَ
الْعَبّاسُ وَرَبِيعَةُ رَجُلَيْنِ تَاجِرَيْنِ وَكَانَا إذَا شَاعَا فِي بَعْضِ
الْعَرَبِ ، فَسُئِلَا مِمّنْ هُمَا ؟ قَالَا : نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ،
يَتَعَزّزَانِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّ كِنْدَةَ كَانُوا مُلُوكًا . ثُمّ قَالَ
لَهُمْ لَا ، بَلْ نَحْنُ بَنُو النّضْر بْنِ كِنَانَةَ ، لَا نَقَفُوا أُمّنَا ،
وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا ، فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : هَلْ فَرَغْتُمْ
يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ ؟ وَاَللّهِ لَا أَسْمَعُ رَجُلًا يَقُولُهَا إلّا ضَرَبْته
ثَمَانِينَ [ ص 586 ]
[ نَسَبُ الْأَشْعَثِ إلَى آكِلِ الْمُرَارِ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ
وَلَد آكِلِ الْمُرَارِ مِنْ قِبَلِ النّسَاءِ وَآكِلُ الْمُرَارِ الْحَارِثُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ حُجْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدِيّ وَيُقَالُ كِنْدَةَ
، وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّ عَمْرَو بْنَ الْهَبُولَةِ
الْغَسّانِيّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْحَارِثُ غَائِبًا ، فَغَنِمَ وَسَبَى
، وَكَانَ فِيمَنْ سَبَى أُمّ أُنَاسَ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ مُحَلّمٍ الشّيْبَانِيّ
امْرَأَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَتْ لِعَمْرِو فِي مَسِيرِهِ لَكَأَنّي
بِرَجُلِ أَدْلَمْ أَسْوَدَ كَأَنّ مَشَافِرَهُ مَشَافِرُ بَعِيرِ آكِلِ مُرَارٍ
قَدْ أَخَذَ بِرِقْبَتِك ، تَعْنِي الْحَارِثَ فَسُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ
وَالْمُرَارُ شَجَرٌ . ثُمّ تَبِعَهُ الْحَارِثُ فِي بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، فَلَحِقَهُ
فَقَتَلَهُ وَاسْتَنْقَذَ امْرَأَتَهُ وَمَا كَانَ أَصَابَ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ
الْيَشْكُرِيّ لِعَمْرِو بْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ اللّخْمِيّ
وَأَقَدْنَاكَ رَبّ غَسّانَ بِالْمُنْذِرِ ... كَرْهًا
إذْ لَا تُكَالُ الدّمَاءُ
لِأَنّ الْحَارِثَ الْأَعْرَجَ الْغَسّانِيّ قَتَلَ
الْمُنْذِرُ أَبَاهُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ
أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت
مِنْ الْقَطْعِ . وَيُقَالُ بَلْ آكِلُ الْمُرَارِ حُجْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ
وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّهُ
أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ شَجَرًا يُقَالُ لَهُ
الْمُرَارُ . [ ص 587 ]
قُدُومُ
صُرَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ ،
فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ فِي وَفْدٍ مِنْ الْأَزْدِ ، فَأَمّرَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ . وَأَمَرُوهُ
أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ كَانَ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ
قِبَلِ الْيَمَنِ . فَخَرَجَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَسِيرُ بِأَمْرِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِجُرَشَ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ
مَدِينَةٌ مُعَلّقَةٌ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، وَقَدْ ضَوَتْ
إلَيْهِمْ خَثْعَمُ ، فَدَخَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِسَيْرِ
الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فَحَاصَرُوهُمْ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ
وَامْتَنَعُوا فِيهَا مِنْهُ ثُمّ إنّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلًا ، حَتّى إذَا
كَانَ إلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ شَكْرُ ، ظَنّ أَهْلُ جُرَشَ أَنّهُ إنّمَا
وَلّى عَنْهُمْ مُنْهَزِمًا ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ حَتّى إذَا أَدْرَكُوهُ عَطَفَ
عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا .
[ إخْبَارُ الرّسُولِ وَافِدِي جُرَشَ بِمَا حَدّثَ لِقَوْمِهَا ]
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جَرْش بَعَثُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ
فَبَيْنَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَشِيّةً
بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إذْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِأَيّ بِلَادِ اللّهِ شَكْرُ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الْجُرَشِيّانِ فَقَالَا
: يَا رَسُولَ اللّهِ بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ كَشْرُ ، وَكَذَلِكَ
يُسَمّيهِ أَهْلُ جُرَشَ ، فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِكَشْرَ وَلَكِنّهُ شَكْرُ ؛
قَالَا : فَمَا شَأْنُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ إنّ بُدْنَ اللّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ
الْآنَ قَالَ فَجَلَسَ الرّجُلَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ
لَهُمَا : وَيْحَكُمَا إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَيَنْعَى لَكُمَا قَوْمكُمَا ، فَقُومَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْأَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ
قَوْمِكُمَا ؛ فَقَامَا إلَيْهِ فَسَأَلَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ اللّهُمّ ارْفَعْ
عَنْهُمْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
رَاجِعِينَ إلَى قَوْمِهِمَا ، فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا قَدْ أُصِيبُوا يَوْمَ
أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ وَفِي السّاعَةِ الّتِي ذَكَرَ
فِيهَا مَا ذَكَرَ . [ ص 588 ]
[ إسْلَامُ أَهْلِ جُرَشَ ]
وَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمُوا ، وَحَمَى لَهُمْ حِمًى
حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ عَلَى أَعْلَامٍ مَعْلُومَةٍ لِلْفَرَسِ وَالرّاحِلَةِ
وَلِلْمُثِيرَةِ بَقَرَةُ الْحَرْثِ فَمَنْ رَعَاهُ مِنْ النّاسِ فَمَا لَهُمْ
سُحْتٌ . فَقَالَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ : وَكَانَتْ
خَثْعَمُ تُصِيبُ مِنْ الْأَزْدِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانُوا يَعْدُونَ فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ
يَا غَزْوَةً مَا غَزَوْنَا غَيْرَ خَائِبَةٍ ... فِيهَا
الْبِغَالُ وَفِيهَا الْخَيْلُ وَالْحُمُرُ
حَتّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ...
وَجَمْعُ خَثْعَمَ قَدْ شَاعَتْ لَهَا النّذُرُ
إذَا وَضَعَتْ غَلِيلًا كُنْتُ أَحْمِلُهُ ... فَمَا
أُبَالِي أَدَانُوا بَعْدُ أَمْ كَفَرُوا
قُدُومُ
رَسُولِ مُلُوكِ حِمْيَرَ بِكِتَابِهِمْ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كِتَابُ مُلُوكِ حِمْيَرَ ، مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ ، وَرَسُولُهُمْ
إلَيْهِ بِإِسْلَامِهِمْ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ
كُلَالٍ ، وَالنّعْمَانُ قَيْلُ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ ؛ وَبَعَثَ
إلَيْهِ زُرْعَةَ ذُو يَزَنٍ مَا لَك ابْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ بِإِسْلَامِهِمْ
وَمُفَارَقَتِهِمْ الشّرْكَ وَأَهْلَهُ [ ص 589 ] فَكَتَبَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ
رَسُولِ اللّهِ النّبِيّ ، إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى
نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى النّعْمَانِ قَيْلِ ذِي رُعَيْنٍ
وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ . أَمّا بَعْدُ ذَلِكُمْ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ
اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ وَقَعَ بِهِ رَسُولُكُمْ
مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرّوم ِ فَلَقِيَنَا بِالْمَدِينَةِ ، فَبَلّغَ مَا
أَرْسَلْتُمْ بِهِ وَخَبّرَ مَا قَبْلَكُمْ وَأَنْبَأْنَا بِإِسْلَامِكُمْ
وَقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ وَأَنّ اللّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهُدَاهُ إنْ
أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَمْتُمْ الصّلَاةَ وَآتَيْتُمْ
الزّكَاةَ وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَسَهْمَ الرّسُولِ
وَصَفِيّهُ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ
عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ
نِصْفُ الْعُشْرِ وَأَنّ فِي الْإِبِلِ الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ وَفِي ثَلَاثِينَ
مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ وَفِي كُلّ خُمُسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ
وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ
بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ
وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةٌ وَحْدَهَا ، شَاةٌ وَأَنّهَا
فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي فَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَمَنْ أَدّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إسْلَامِهِ
وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ
مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَلَهُ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ
وَإِنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ فَإِنّهُ مِنْ
الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى
يَهُودِيّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَيْهِ
الْجِزْيَةُ عَلَى كُلّ حَالٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ
وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا ، فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةُ اللّهِ
وَذِمّةُ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ . أَمّا
بَعْدُ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ مُحَمّدًا النّبِيّ أَرْسَلَ إلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنٍ
أَنْ إذَا أَتَاكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا : مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ
وَمَالِكُ بْنُ مُرّةَ وَأَصْحَابُكُمْ وَأَنْ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ
الصّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مُخَالِيفِكُمْ وَأَبْلِغُوهَا رُسُلِي ، وَأَنّ أَمِيرَهُمْ
مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَا يَنْقَلِبَنّ إلّا رَاضِيًا ، أَمّا بَعْدُ . فَإِنّ
مُحَمّدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
ثُمّ إنّ مَالِكَ بْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ قَدْ حَدّثَنِي أَنّك أَسْلَمْتَ مِنْ
أَوّلِ حِمْيَرَ ، وَقَتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ فَأَبْشِرْ بِخَيْرِ وَآمُرُك
بِحِمْيَرَ خَيْرًا ، وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَخَاذَلُوا ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ
هُوَ وَلِيّ غَنِيّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ وَأَنّ الصّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدِ
وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ إنّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُزَكّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ
وَابْنِ السّبِيلِ وَأَنّ مَالِكًا قَدْ بَلّغَ الْخَبَرَ ، وَحَفِظَ الْغَيْبَ
وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا ، وَإِنّي قَدْ أَرْسَلْتُ إلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي
أَهْلِي وَأُولِي دِينِهِمْ وَأُولِي عِلْمِهِمْ وَآمُرُك بِهِمْ خَيْرًا ،
فَإِنّهُمْ مَنْظُورٌ إلَيْهِمْ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ
وَبَرَكَاتُهُ [ ص 590 ]
وَصِيّةُ
الرّسُولِ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا ، أَوْصَاهُ وَعَهِدَ إلَيْهِ ثُمّ قَالَ لَهُ يَسّرْ وَلَا
تُعَسّرْ وَبَشّرْ وَلَا تُنَفّرْ وَإِنّك سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ يَسْأَلُونَك مَا مِفْتَاحُ الْجَنّةِ فَقُلْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ
إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَخَرَجَ مُعَاذٌ حَتّى إذَا قَدِمَ
الْيَمَنَ قَامَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَتْ يَا صَاحِبَ
رَسُولِ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ وَيْحَك إنّ
الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُؤَدّيَ حَقّ زَوْجِهَا ، فَأَجْهِدِي
نَفْسَك فِي أَدَاءِ حَقّهِ مَا اسْتَطَعْت ، قَالَتْ وَاَللّهِ لَئِنْ كُنْت
صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك لَتَعْلَمُ مَا حَقّ
الزّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ . قَالَ وَيْحَك لَوْ رَجَعْت إلَيْهِ فَوَجَدْته تَنْثَعِبُ
مَنْخِرَاهُ قَيْحًا وَدَمًا ، فَمَصَصْت ذَلِكَ حَتّى تُذْهِبِيهِ مَا أَدّيْت
حَقّهُ . [ ص 591 ]
إسْلَامُ
فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو
النّافِرَةَ الْجُذَامِيّ ثُمّ النّفَاثِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولًا بِإِسْلَامِهِ وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَانَ
فَرْوَةُ عَامِلًا لِلرّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَرَبِ ، وَكَانَ
مَنْزِلُهُ مُعَانٍ وَمَا حَوْلَهَا من أَرْضِ الشّامِ . فَلَمّا بَلَغَ الرّومَ ذَلِكَ مِنْ
إسْلَامِهِ طَلَبُوهُ حَتّى أَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ عِنْدَهُمْ فَقَالَ فِي
مَحْبِسِهِ ذَلِكَ
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنَا أَصْحَابِي ... وَالرّومُ
بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
صَدّ الْخَيّالُ وَسَاءَهُ مَا قَدْ رَأَى ...
وَهَمَمْتُ أَنْ أُغْفِي وَقَدْ أَبْكَانِي
لَا تَكْحَلِنّ الْعَيْنَ بَعْدِي إثْمِدًا ... سَلْمَى
وَلَا تَدِيَنّ لِلْإِتْيَانِ
وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَبَا كُبَيْشَةَ أَنّنِي ... وَسْطَ
الْأَعِزّةِ لَا يُحَصْ لِسَانِي
فَلَئِنْ هَلَكْتُ لَتَفْقِدُنّ أَخَاكُمْ ... وَلَئِنْ
بَقِيتُ لَتَعْرِفُنّ مَكَانِي
وَلَقَدْ جَمَعْتُ أَجَلّ مَا جَمَعَ الْفَتَى ... مِنْ
جَوْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَبَيَانِ
فَلَمّا أَجَمَعَتْ الرّومُ لِصَلْبِهِ عَلَى مَاءٍ
لَهُمْ يُقَالُ لَهُ عَفْرَاءُ بِفِلَسْطِينَ قَالَ [ ص 592 ]
أَلَا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنّ حَلِيلَهَا ... عَلَى
مَاءِ عَفْرَا فَوْقَ إحْدَى الرّوَاحِلِ
عَلَى نَاقَةٍ لَمْ يَضْرِبْ الْفَحْلُ أُمّهَا ...
مُشّذّبَةٌ أَطْرَافُهَا بِالْمَنَاجِلِ
فَزَعَمَ الزّهْرِيّ ابْنُ شِهَابٍ ، أَنّهُمْ لَمّا
قَدّمُوهُ لِيَقْتُلُوهُ . قَالَ
بَلّغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنّنِي ... سَلْمٌ
لِرَبّي أَعْظُمِي وَمَقَامِي
ثُمّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ
الْمَاءِ يَرْحَمُهُ اللّهُ تَعَالَى
.
إسْلَامُ
بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمّا سَارَ
إلَيْهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فِي شَهْرِ رَبِيعٍ
الْآخِرِ أَوْ جُمَادَى الْأُولَى ، سَنَةَ عَشْرٍ إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبٍ بِنَجْرَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ
ثَلَاثًا ، فَإِنْ اسْتَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا
فَقَاتِلِهِمْ . فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَبَعَثَ الرّكْبَانُ
يَضْرِبُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ أَيّهَا
النّاسُ أَسْلِمُوا تُسْلَمُوا
. فَأَسْلَمَ النّاسُ وَدَخَلُوا فِيمَا دُعُوا إلَيْهِ
فَأَقَامَ فِيهِمْ خَالِدٌ يُعَلّمُهُمْ الْإِسْلَامَ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ
نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِذَلِكَ كَانَ أَمَرَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ هُمْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا .
[ كِتَابُ خَالِدٍ إلَى الرّسُولِ يَسْأَلُهُ رَأْيَهُ فِي
الْبَقَاءِ أَوْ الْمَجِيءِ ]
ثُمّ [
ص 593 ] كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، السّلَامُ عَلَيْك
يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك
اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْك ، فَإِنّك بَعَثْتنِي إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَمَرْتنِي
إذَا أَتَيْتهمْ أَلّا أُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَأَنْ أَدْعُوَهُمْ إلَى
الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا أَقَمْت فِيهِمْ وَقَبِلْت مِنْهُمْ وَعَلّمْتهمْ
مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ وَإِنْ لَمْ
يُسْلِمُوا قَاتَلْتهمْ . وَإِنّي قَدِمْت عَلَيْهِمْ فَدَعَوْتهمْ إلَى
الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعَثْت فِيهِمْ رُكْبَانًا ، قَالُوا : يَا بَنِي الْحَارِثِ
أَسَلِمُوا تُسْلَمُوا ، فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَنَا مُقِيمٌ
بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ آمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ بِهِ وَأَنْهَاهُمْ عَمّا
نَهَاهُمْ اللّهُ عَنْهُ وَأُعَلّمُهُمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَسُنّةَ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَكْتُبَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالسّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ
وَبَرَكَاتُهُ .
[ كِتَابُ الرّسُولِ إلَى خَالِدٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَجِيءِ ]
فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ
اللّهِ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . سَلَامٌ عَلَيْك ، فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك
اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ كِتَابَك جَاءَنِي مَعَ رَسُولِك
تُخْبِرُ أَنّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ
تُقَاتِلَهُمْ وَأَجَابُوا إلَى مَا دَعَوْتهمْ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ
وَشَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُ اللّهِ
وَرَسُولُهُ وَأَنْ قَدْ هَدَاهُمْ اللّهُ بِهُدَاهُ فَبَشّرْهُمْ وَأَنْذِرْهُمْ
وَأَقْبِلْ وَلْيُقْبِلْ مَعَك وَفْدُهُمْ وَالسّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللّهِ
وَبَرَكَاتُهُ .
فَأَقْبَلَ خَالِدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذِي الْغُصّةِ ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجّلِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ قُرَادٍ الزّيَادِيّ وَشَدّادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَنَانِيّ ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللّهِ الضّبَابِيّ [ ص 594 ] فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَآهُمْ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ كَأَنّهُمْ رِجَالُ الْهِنْدِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَؤُلَاءِ رِجَالُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلّمُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَأَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ، فَسَكَتُوا ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّانِيَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّالِثَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الرّابِعَةَ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ، قَالَهَا أَرْبَعَ مِرَارٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَنّ خَالِدًا لَمْ يَكْتُبْ إلَيّ أَنّكُمْ أَسْلَمْتُمْ وَلَمْ تُقَاتِلُوا ، لَأَلْقَيْت رُءُوسَكُمْ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : أَمَا وَاَللّهِ مَا حَمِدْنَاك وَلَا حَمِدْنَا خَالِدًا ، قَالَ فَمَنْ حَمِدْتُمْ ؟ قَالُوا : حَمِدْنَا اللّهَ عَزّ وَجَلّ الّذِي هَدَانَا بِك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ صَدَقْتُمْ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالُوا : لَمْ نَكُنْ نَغْلِبُ أَحَدًا ؛ قَالَ بَلَى ، قَدْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ قَالُوا : كُنّا نَغْلِبُ مَنْ قَاتَلَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا نَجْتَمِعُ وَلَا نَفْتَرِقُ وَلَا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمِ قَالَ صَدَقْتُمْ وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ . فَرَجَعَ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ إلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيّةٍ مِنْ شَوّالٍ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْقَعَدَةِ فَلَمْ يَمْكُثُوا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ إلّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَحِمَ وَبَارَكَ وَرَضِيَ وَأَنْعَمَ .
وَقَدْ [ ص 595 ] كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ وَلّى وَفْدُهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ ، لِيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ وَيُعَلّمَهُمْ السّنّةَ وَمَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ عَهْدَهُ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عَهْدٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ فِي أَمْرِهِ كُلّهِ فَإِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَاَلّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقّ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ وَأَنْ يُبَشّرَ النّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُعَلّمَ النّاسَ الْقُرْآنَ وَيُفَقّهَهُمْ فِيهِ وَيَنْهَى النّاسَ فَلَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إنْسَانٌ إلّا وَهُوَ طَاهِرٌ وَيُخْبِرَ النّاسَ بِاَلّذِي لَهُمْ وَاَلّذِي عَلَيْهِمْ وَيَلِينَ لِلنّاسِ فِي الْحَقّ وَيَشْتَدّ عَلَيْهِمْ فِي الظّلْمِ فَإِنّ اللّهَ كَرِهَ الظّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ { أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ } وَيُبَشّرَ النّاسَ بِالْجَنّةِ وَبِعَمَلِهَا ، وَيُنْذِرَ النّاسَ النّارَ وَعَمَلَهَا ، وَيَسْتَأْلِفَ النّاسَ حَتّى يُفَقّهُوا فِي الدّينِ وَيُعَلّمَ النّاسَ مَعَالِمَ الْحَجّ وَسُنّتَهُ وَفَرِيضَتَهُ وَمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَالْحَجّ الْأَكْبَرَ الْحَجّ الْأَكْبَرَ وَالْحَجّ الْأَصْغَرَ هُوَ الْعُمْرَةُ . وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يُصَلّيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إلّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُثْنِي طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقِيهِ وينهى النّاسَ أن يَحْتَبِيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إلَى السّمَاءِ وَيَنْهَى أَنْ يُعَقّصَ أَحَدٌ شَعَرَ رَأْسِهِ فِي قَفَاهُ وَيَنْهَى إذَا كَانَ بَيْنَ النّاسِ هَيْجٌ عَنْ الدّعَاءِ إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَلْيَكُنْ دَعَوَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إلَى اللّهِ وَدَعَا إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَلْيُقْطَفُوا بِالسّيْفِ حَتّى تَكُونَ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَأْمُرُ النّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَهُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَيَمْسَحُونَ بِرُءُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ لِوَقْتِهَا ، وَإِتْمَامِ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالْخُشُوعِ وَيُغَلّسُ بِالصّبْحِ وَيُهَجّرُ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلُ الشّمْسُ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالشّمْسُ فِي الْأَرْضِ مُدْبِرَةٌ وَالْمَغْرِبُ حِينَ يَقْبَلُ اللّيْلُ لَا يُؤَخّرُ حَتّى تَبْدُوَ النّجُومُ فِي السّمَاءِ وَالْعِشَاءُ أَوّلُ اللّيْلِ وَأَمَرَ بِالسّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا ، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرّوَاحِ إلَيْهَا ؛ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفَ الْعُشْرِ وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةٌ وَحْدَهَا ، شَاةٌ فَإِنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ إسْلَامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ وَدَانَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى نَصْرَانِيّتِهِ أَوْ يَهُودِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَى كُلّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا . فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا ؛ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَى مُحَمّدٍ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ [ ص 596 ]
قُدُومُ
رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، قَبْلَ خَيْبَرَ ، رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ
الْجُذَامِيّ ثُمّ الضّبَيْبِيّ فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ غُلَامًا ، وَأَسْلَمَ ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا إلَى قَوْمِهِ . وَفِي كِتَابِهِ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ
لِرِفَاعَةِ بْنِ زَيْدٍ . إنّي بَعَثْته إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ
فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ
فَفِي حِزْبِ اللّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ وَمَنْ أَدْبَرَ فَلَهُ أَمَانُ
شَهْرَيْنِ فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ أَجَابُوا وَأَسْلَمُوا ،
ثُمّ سَارُوا إلَى الْحَرّةِ : حَرّةِ الرّجْلَاءِ ، وَنَزَلُوهَا .
قُدُومُ
وَفْدِ هَمْدَانَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا [ ص 597 ] الْعَبْدِيّ عَنْ
أَبِي إسْحَاقَ السّبِيعِيّ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ
ذُو الْمِشْعَارِ وَمَالِكُ بْنُ أَيْفَعَ وَضِمَامُ بْنُ مَالِكٍ السّلْمَانِيّ
وَعَمِيرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخَارِفِيّ فَلُقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ وَعَلَيْهِمْ مُقَطّعَاتُ الْحِبَرَاتِ
وَالْعَمَائِمُ الْعَدَنِيّةُ بِرِحَالِ الْمَيْسِ عَلَى الْمَهْرِيّة
وَالْأَرْحَبِيّة وَمَالِكِ بْنِ نَمَطٍ وَرَجُلٍ آخَرَ يَرْتَجِزَانِ بِالْقَوْمِ
يَقُولُ أَحَدُهُمَا :
هَمْدَانُ خَيْرٌ سُوقَةً وَأَقْيَالْ ... لَيْسَ لَهَا
فِي الْعَالَمِينَ أَمْثَالْ
مَحَلّهَا الْهَضْبُ وَمِنْهَا الْأَبْطَالْ ... لَهَا
إطَابَاتٌ بِهَا وَآكَالْ
وَيَقُولُ الْآخَرُ
إلَيْكَ جَاوَزْنَ سَوَادَ الرّيفِ ... فِي هَبَوَاتِ
الصّيْفِ وَالْخَرِيفِ
مُخَطّمَاتٍ بِحِبَالِ اللّيفِ فَقَامَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ
بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ نَصّيةٌ مِنْ هَمْدَانَ ، مِنْ كُلّ
حَاضِرٍ وَبَادٍ أَتَوْك عَلَى قُلُصٍ نَوَاجٍ مُتّصِلَةٌ بِحَبَائِلِ
الْإِسْلَامِ [ ص 598 ] لَائِمٍ مِنْ مِخْلَافِ خَارِفٍ وَيَام وَشَاكِرٍ أَهْلُ
السّودِ وَالْقَوَدِ أَجَابُوا دَعْوَةَ الرّسُولِ وَفَارَقُوا الْإِلَهَاتِ الْأَنْصَابَ
عَهْدُهُمْ لَا يُنْقَضُ مَا أَقَامَتْ لَعْلَعٌ ، وَمَا جَرَى الْيَعْفُورُ
بِصَلَعٍ .
[ كِتَابُ الرّسُولِ بِالنّهْيِ ]
فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كِتَابًا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ مُحَمّدٍ ، لِمِخْلَافِ خَارِفٍ وَأَهْلِ جَنَابِ الْهَضْبِ
وَحِقَافِ الرّمْلِ مَعَ وَافِدِهَا ذِي الْمِشْعَارِ مَالِكِ بْنِ نَمَطٍ وَمَنْ أَسْلَمَ
مِنْ قَوْمِهِ عَلَى أَنّ لَهُمْ فِرَاعَهَا وَوِهَاطَهَا ، مَا أَقَامُوا
الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ يَأْكُلُونَ عِلَافَهَا وَيَرْعُونَ عَافِيَهَا ،
لَهُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَذِمَامُ رَسُولِهِ وَشَاهِدُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ
وَالْأَنْصَارُ . فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ [ ص 599 ]
ذَكَرْتُ رَسُولَ اللّهِ فِي فَحْمَةِ الدّجَى ...
وَنَحْنُ بِأَعْلَى رَحْرَحَانَ وَصَلْدَدِ
وَهُنّ بِنَا خُوصٌ طَلَائِحُ تَغْتَلِي ...
بِرُكْبَانِهَا فِي لَاحِبٍ مُتَمَدّدِ
عَلَى كُلّ فَتْلَاءِ الذّرَاعَيْنِ جَسْرَةٍ ... تَمُرّ
بِنَا مَرّ الْهِجَفّ الْحَفَيْدَدِ
حَلَفْتُ بِرَبّ الرّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... صَوَادِرَ
بِالرّكْبَانِ مِنْ هَضْبِ قَرْدَدِ
بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ فِينَا مُصَدّقُ ... رَسُولٌ
أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُهْتَدِي
فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ...
أَشَدّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمّدِ
وَأَعْطَى إذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ ...
وَأَمْضَى بِحَدّ الْمَشْرَفِيّ الْمُهَنّدِ
ذِكْرُ
الْكَذّابَينَ مُسَيْلِمَةَ الْحَنَفِيّ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ تَكَلّمَ فِي
عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَذّابَانِ مُسَيْلِمَةُ
بْنُ حَبِيبٍ بِالْيَمَامَةِ فِي بَنِي حَنِيفَةَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيّ
بِصَنْعَاءَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَوْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا
النّاسُ إنّي قَدْ رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ أُنْسِيتهَا ، وَرَأَيْت فِي
ذِرَاعَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا ، فَأَوّلْتهمَا
هَذَيْنِ الْكَذّابَيْنِ صَاحِبِ الْيَمَنِ ، وَصَاحِبِ الْيَمَامَةِ
[ حَدِيثُ الرّسُولِ عَنْ الدّجّالِينَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَقُولُ لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجّالًا ، كُلّهُمْ
يَدّعِي النّبُوّةَ . [ ص 600 ]
خُرُوجُ
الْأُمَرَاءِ وَالْعُمّالِ عَلَى الصّدَقَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَعَثَ أُمَرَاءَهُ وَعُمّالَهُ عَلَى الصّدَقَاتِ
إلَى كُلّ مَا أَوْطَأَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْبُلْدَانِ فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ
بْنَ أَبِي أُمَيّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ إلَى صَنْعَاءَ ، فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيّ
وَهُوَ بِهَا ؛ وَبَعَثَ زِيَادَ بْنَ لَبِيدٍ ، أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ
الْأَنْصَارِيّ إلَى حَضْرَمَوْتَ وَعَلَى صَدَقَاتِهَا ؛ وَبَعَثَ عَدِيّ بْنَ
حَاتِمٍ عَلَى طَيّئ ٍ وَصَدَقَاتِهَا ، وَعَلَى بَنِي أَسَدٍ ؛ وَبَعَثَ مَالِكَ
بْنَ نُوَيْرَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: الْيَرْبُوعِيّ - عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ
وَفَرّقَ صَدَقَةَ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ فَبَعَثَ الزّبْرِقَانَ
بْنَ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا ، وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَكَانَ
قَدْ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَبَعَثَ عَلِيّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَجْمَعَ
صَدَقَتَهُمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ .
[ كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ ]
وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ ، قَدْ كَتَبَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ
اللّهِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ؛ أَمّا بَعْدُ فَإِنّي
قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَك ، وَإِنّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ وَلِقُرَيْشٍ
نِصْفَ الْأَرْضِ وَلَكِنّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ . فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ
لَهُ بِهَذَا الْكِتَابِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ
أَشْجَعَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ ، عَنْ
أَبِيهِ نُعَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَقُولُ لَهُمَا حِينَ قَرَأَ كِتَابَهُ فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا ؟ قَالَا :
نَقُولُ كَمَا قَالَ فَقَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ
لَضَرَبْت أَعْنَاقَكُمَا . ثُمّ كَتَبَ إلَى مُسَيْلِمَةَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ :
السّلَامُ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ الْأَرْضَ لِلّهِ يُورَثُهَا
مَنْ يُشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ [ ص 601 ] وَذَلِكَ فِي
آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ .
حَجّةُ
الْوَدَاعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذُو الْقَعَدَةِ تَجَهّزَ لِلْحَجّ وَأَمَرَ
النّاسَ بِالْجَهَازِ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ
بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْحَجّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي
الْقَعَدَةِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا دُجَانَةَ
السّاعِدِيّ ، وَيُقَالُ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ .
[ مَا أَمَرَ بِهِ الرّسُولُ عَائِشَةَ فِي حَيْضِهَا ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ
بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ ،
قَالَتْ لَا يَذْكُرُ وَلَا يَذْكُرُ النّاسُ إلّا الْحَجّ حَتّى إذَا كَانَ
بِسَرِفٍ وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ الْهَدْيَ
وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَاف النّاسِ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يُحِلّوا بِعُمْرَةِ إلّا
مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَتْ وَحِضْت ذَلِكَ الْيَوْمَ فَدَخَلَ عَلَيّ وَأَنَا
أَبْكِي ؛ فَقَالَ مَا لَك يَا عَائِشَةُ ؟ لَعَلّك نُفِسْت ؟ قَالَتْ قُلْت :
نَعَمْ وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي لَمْ أَخْرُجْ مَعَكُمْ عَامِي فِي هَذَا
السّفَرِ فَقَالَ لَا تَقُولِنّ ذَلِكَ فَإِنّك تَقْضِينَ كُلّ مَا يَقْضِي الْحَاجّ
إلّا أَنّك لَا تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ . قَالَتْ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، فَحَلّ كُلّ مَنْ كَانَ لَا هَدْيَ مَعَهُ
وَحَلّ نِسَاؤُهُ بِعُمْرَةٍ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ أُتِيتُ بِلَحْمِ
بَقَرٍ كَثِيرٍ فَطُرِحَ فِي بَيْتِي ، فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : ذَبَحَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ حَتّى
إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ بَعَثَ بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ أَخِي عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَنِي
مِنْ التّنْعِيمِ ، مَكَانَ عُمْرَتِي الّتِي فَاتَتْنِي [ ص 602 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عُمَرَ ، عَنْ حَفْصَةَ ابْنَةِ عُمَرَ قَالَتْ لَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يُحْلِلْنَ بِعُمْرَةٍ قُلْنَ
فَمَا يَمْنَعُك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ تُحِلّ مَعَنَا ؟ فَقَالَ إنّي
أَهْدَيْتُ وَلَبّدْت ، فَلَا أُحِلّ حَتّى أَنْحَرَ هَدْيِي
مُوَافَاةُ
عَلِيّ فِي قُفُولِهِ مِنْ الْيَمَنِ رَسُولَ اللّهِ فِي الْحَجّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ بَعَثَ
عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى نَجْرَانَ ، فَلَقِيَهُ بِمَكّةَ وَقَدْ أَحْرَمَ
فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَرِضَى عَنْهَا ، فَوَجَدَهَا قَدْ حَلّتْ وَتَهَيّأَتْ فَقَالَ مَا لَك يَا
بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ نَحِلّ بِعُمْرَةِ فَحَلَلْنَا . ثُمّ أَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ سَفَرِهِ قَالَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ ،
وَحِلّ كَمَا حَلّ بِأَصْحَابِك ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَهْلَلْتُ كَمَا
أَهْلَلْتَ فَقَالَ ارْجِعْ فَاحْلِلْ كَمَا حَلّ أَصْحَابُك . قَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّي قُلْت حِينَ أَحْرَمْتُ اللّهُمّ إنّي أُهِلّ بِمَا أَهَلّ بِهِ
نَبِيّك وَعَبْدُك وَرَسُولُك مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
فَهَلْ مَعَك مِنْ هَدْيٍ ؟ قَالَ لَا . فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَدْيِهِ وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى فَرَغَا مِنْ الْحَجّ وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ عَنْهُمَا [ ص 603 ]
[ شَكَا عَلِيّا جَنَدُهُ إلَى الرّسُولِ لِانْتِزَاعِهِ
عَنْهُمْ حُلَلًا مِنْ بَزّ الْيَمَنِ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ
بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ قَالَ لَمّا أَقْبَلَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
مِنْ الْيَمَنِ لِيَلْقَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ
تَعَجّلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى
جُنْدِهِ الّذِينَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَعَمِدَ ذَلِكَ الرّجُلُ
فَكَسَا كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ حُلّةً مِنْ الْبَزّ الّذِي كَانَ مَعَ عَلِيّ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . فَلَمّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ لِيَلْقَاهُمْ فَإِذَا
عَلَيْهِمْ الْحُلَلُ قَالَ وَيْلَك مَا هَذَا ؟ قَالَ كَسَوْت الْقَوْمَ
لِيَتَجَمّلُوا بِهِ إذَا قَدِمُوا فِي النّاسِ قَالَ وَيْلك انْزِعْ قَبْلَ أَنْ
تَنْتَهِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ
فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنْ النّاسِ فَرَدّهَا فِي الْبَزّ قَالَ وَأَظْهَرَ
الْجَيْشَ شَكْوَاهُ لِمَا صُنِعَ بِهِمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ
وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ
قَالَ اشْتَكَى النّاسُ عَلِيّا رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَسَمِعْته يَقُولُ أَيّهَا
النّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيّا ، فَوَاَللّهِ إنّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللّهِ
أَوْ فِي سَبِيلِ اللّهِ مِنْ أَنْ يُشْكَى
[ خُطْبَةُ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ
وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي بَيّنَ فِيهَا
مَا بَيّنَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا
قَوْلِي ، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا
بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا ؛ أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ،
وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ
عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ
فَلِيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنّ كُلّ رِبًا مَوْضُوعٌ
وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ . قَضَى
اللّهُ أَنّهُ لَا رِبَا ، وَإِنّ رِبَا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَوْضُوعٌ
كُلّهُ وَأَنّ كُلّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ أَوّلَ
دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ [ ص 604 ] ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ
فَهُوَ أَوّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ . أَمّا بَعْدُ
أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ
هَذِهِ أَبَدًا ، وَلَكِنّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ
مِمّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ أَيّهَا النّاسُ
إنّ النّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بَهْ الّذِينَ كَفَرُوا ،
يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا ، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ
اللّهُ فَيَحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ وَيُحَرّمُوا مَا أَحَلّ اللّهُ وَإِنّ
الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ،
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ ، الّذِي
بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ . أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ
حَقّا ، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقّا ، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ
أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةِ مُبَيّنَةٍ
فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي
الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ فَإِنْ انْتَهَيْنَ
فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ
خَيْرًا ، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا ،
وَإِنّكُمْ إنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ
فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَاتِ اللّهِ فَاعْقِلُوا أَيّهَا النّاسُ قَوْلِي ، فَإِنّي
قَدْ بَلّغْت ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا
أَبَدًا ، أَمْرًا بَيّنًا ، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ . أَيّهَا النّاسُ
اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ تَعَلّمُنّ أَنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ
وَأَنّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ مِنْ أَخِيهِ إلّا مَا
أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُنّ أَنَفْسَكُمْ اللّهُمّ هَلْ
بَلّغْت ؟ فَذُكِرَ لِي أَنّ النّاسَ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اشْهَدْ [ ص 605 ]
[ اسْمُ الصّارِخِ بِكَلَامِ الرّسُولِ وَمَا كَانَ يُرَدّدُهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ
عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ كَانَ
الرّجُلُ الّذِي يَصْرُخُ فِي النّاسِ يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُعْرِفَةٌ رَبِيعَة بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلْفٍ . قَالَ يَقُولُ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ إنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلّا تَدْرُونَ أَيّ
شَهْرٍ هَذَا ؟ فَيَقُولُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ الشّهْرُ الْحَرَامُ فَيَقُولُ قُلْ
لَهُمْ إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ
تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ؛ ثُمّ يَقُولُ قُلْ يَأَيّهَا النّاسُ
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ
بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالَ فَيَصْرُخُ بِهِ قَالَ فَيَقُولُونَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ ؛
قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا ؛
قَالَ ثُمّ يَقُولُ قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالَ فَيَقُولُهُ
لَهُمْ . فَيَقُولُونَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ إنّ
اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا
رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا
[ رِوَايَةُ ابْنِ خَارِجَةَ عَمّا سَمِعَهُ مِنْ الرّسُولِ فِي
حَجّةِ الْوَدَاعِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي لَيْثُ بْنُ أَبِي
سُلَيْمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ
قَالَ بَعَثَنِي عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي حَاجَةٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ
فَبَلَغَتْهُ ثُمّ وَقَفْت تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَإِنّ لُغَامَهَا لَيَقَعُ عَلَى رَأْسِي ، فَسَمِعْته وَهُوَ يَقُولُ
أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ أَدّى إلَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ وَإِنّهُ لَا
تَجُوزُ وَصِيّةٌ لِوَارِثِ وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ،
وَمَنْ ادّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللّهُ مِنْهُ
صَرْفًا وَلَا عَدْلًا .
[ بَعْضُ تَعْلِيمِ الرّسُولِ فِي الْحَجّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَقَفَ
بِعَرَفَةَ قَالَ هَذَا الْمَوْقِفَ لِلْجَبَلِ الّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَكُلّ
عَرَفَةَ مَوْقِفٌ . وَقَالَ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ صَبِيحَةَ الْمُزْدَلِفَةِ
: هَذَا
الْمَوْقِفَ وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ . ثُمّ لَمّا نَحَرَ بِالْمَنْحَرِ
بِمِنَى قَالَ هَذَا النّحْرُ وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ . فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّ وَقَدْ أَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ مَا
فَرَضَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَجّهِمْ مِنْ الْمَوْقِفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ
وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَمَا أُحِلّ لَهُمْ مِنْ حَجّهِمْ وَمَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ
فَكَانَتْ حِجّةَ الْبَلَاغِ وَحَجّةَ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحُجّ بَعْدَهَا [ ص 606 ]
بَعْثُ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَفَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحَجّةِ
وَالْمُحَرّمِ وَصَفَرَ وَضَرَبَ عَلَى النّاسِ بَعْثًا إلَى الشّامِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ
الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ والداروم مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، فَتَجَهّزَ
النّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوّلُونَ
خُرُوجُ
رُسُلِ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُلُوكِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَى الْمُلُوكِ رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ
وَكَتَبَ مَعَهُمْ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: حَدّثَنِي
مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيّ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ
بَعْدَ عُمْرَتِهِ الّتِي صُدّ عَنْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ أَيّهَا
النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافّةً فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيّ
كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ عَلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ؛ فَقَالَ
أَصْحَابُهُ وَكَيْفَ اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ
دَعَاهُمْ إلَى الّذِي دَعَوْتُكُمْ إلَيْهِ فَأَمّا مِنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا قَرِيبًا
فَرَضِيَ وَسَلِمَ وَأَمّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا بَعِيدًا فَكَرِهَ وَجْهُهُ
وَتَثَاقَلَ فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى إلَى اللّهِ فَأَصْبَحَ الْمُتَثَاقِلُونَ
وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْأُمّةِ الّتِي بُعِثَ إلَيْهَا [
ص 607 ]
[ أَسَمَاءُ الرّسُلِ وَمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ ]
فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ كُتُبًا إلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ
فِيهَا إلَى الْإِسْلَامِ . فَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ إلَى قَيْصَرَ
مَلِكِ الرّومِ ؛ وَبَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ إلَى كِسْرَى
، مَلِكِ فَارِسَ ؛ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ إلَى النّجَاشِيّ ،
مَلِكِ الْحَبَشَةِ ، وَبَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى الْمُقَوْقَسِ
، مَلِكِ الإسكندرية ؛ وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ السّهْمِيّ إلَى جَيْفَرٍ
وَعَيّادٍ ابْنَيْ الْجُلُنْدَى الْأَزْدِيّيْنِ مَلِكَيْ عُمَانَ ؛ وَبَعَثَ سَلِيطَ
بْنَ عَمْرٍو أَحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، إلَى ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ
وَهَوْذَةُ بْنُ عَلِيّ الْحَنَفِيّينَ مَلِكَيْ الْيَمَامَةِ ؛ وَبَعَثَ
الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ مَلِكَ
الْبَحْرَيْنِ ؛ وَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ الْأَسْدِيّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ
أَبِي شِمْرٍ الْغَسّانِيّ ، مَلِكِ تُخُومِ الشّامِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
بَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إلَى جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ الْغَسّانِيّ وَبَعَثَ
الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ الْمَخْزُومِيّ إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
كُلَالٍ الْحِمْيَرِيّ ، مَلِكِ الْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنَا نَسِيت
سَلِيطًا وَثُمَامَةَ وَهَوْذَةَ وَالْمُنْذِرَ .
[ رِوَايَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَنْ بَعْثِ الرّسُولِ
رُسُلَهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي
حَبِيبٍ الْمِصْرِيّ : أَنّهُ وَجَدَ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُ مَنْ بَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْبُلْدَانِ وَمُلُوكِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ
، وَمَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ حِينَ بَعَثَهُمْ . قَالَ فَبَعَثْت بِهِ إلَى
مُحَمّدِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ فَعَرَفَهُ وَفِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ لَهُمْ إنّ اللّهَ
بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافّةً فَأَدّوْا عَنّي يَرْحَمُكُمْ اللّهُ وَلَا
تَخْتَلِفُوا عَلَيّ كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ عَلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ
؛ قَالُوا : وَكَيْفَ يَا رَسُولَ اللّهِ كَانَ اخْتِلَافُهُمْ ؟ قَالَ دَعَاهُمْ لِمِثْلِ
مَا دَعَوْتُكُمْ لَهُ فَأَمّا مَنْ قَرّبَ بِهِ فَأَحَبّ وَسَلّمَ وَأَمّا مَنْ
بَعُدَ بِهِ فِكْرُهُ وَأَبَى ، فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى مِنْهُمْ إلَى اللّهِ
فَأَصْبَحُوا وَكُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْقَوْمِ الّذِينَ
وُجّهَ إلَيْهِمْ [ ص 608 ]
[ أَسَمَاءُ رُسُلِ عِيسَى ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مَنْ بَعَثَ عِيسَى
ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ الْحَوَارِيّينَ وَالْأَتْبَاعِ الّذِينَ
كَانُوا بَعْدَهُمْ فِي الْأَرْضِ بُطْرُس الْحَوَارِيّ ، وَمَعَهُ بُولُسُ وَكَانَ
بُولُسُ مِنْ الْأَتْبَاعِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَوَارِيّينَ إلَى رُومِيّةَ
وَأَنْدَرَائِسُ وَمَنْتَا إلَى الْأَرْضِ الّتِي يَأْكُلُ أَهْلُهَا النّاسَ
وَتُومَاسُ إلَى أَرْضِ بَابِلَ ، مِنْ أَرْضِ الْمَشْرِقِ وَفِيلِبس إلَى أَرْضِ
قَرْطَاجَنّةَ ، وَهِيَ إفْرِيقِيّةُ وَيُحَنّسُ إلَى أَفْسُوسَ ، قَرْيَةُ
الْفِتْيَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ؛ وَيَعْقُوبُسُ إلَى أَوْرْاشَلِمَ وَهِيَ
إيلِيَاءُ ، قَرْيَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَابْنُ ثَلْمَاءَ إلَى
الْأَعْرَابِيّةِ وَهِيَ أَرْضُ الْحِجَازِ ، وَسِيمُن إلَى أَرْضِ الْبَرْبَرِ ؛
وَيَهُوذَا ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْحَوَارِيّينَ جُعِلَ مَكَانَ يُودِسَ .
ذِكْرُ
جُمْلَةِ الْغَزَوَاتِ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ حَدّثَنَا
أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ وَكَانَ
جَمِيعُ مَا غَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ سَبْعًا
وَعِشْرِينَ غَزْوَةً . مِنْهَا غَزْوَةُ وَدّانَ ، وَهِيَ غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ
، ثُمّ غَزْوَةُ بُوَاط ، مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى ، ثُمّ غَزْوَةُ الْعَشِيرَةِ ،
مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْأُولَى ، يَطْلُبُ كُرْزَ بْنَ
جَابِرٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى ، الّتِي قَتَلَ اللّهُ فِيهَا
صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ ، حَتّى بَلَغَ الْكُدْرَ ،
ثُمّ غَزْوَةُ السّوِيقِ ، يَطْلُبُ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ثُمّ غَزْوَةُ غَطَفَانَ
، وَهِيَ غَزْوَةُ ذِي أَمِر َ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَحْرَانَ مَعْدِنٌ بِالْحِجَازِ
ثُمّ غَزْوَةُ أُحُدٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي
النّضِيرِ ، ثُمّ غَزْوَةُ ذَاتِ الرّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَدْرٍ
الْآخِرَةِ ، ثُمّ غَزْوَةُ دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ ، ثُمّ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ ،
ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ ، مِنْ هُذَيْلٍ
، ثُمّ غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ،
ثُمّ غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ ، [ ص 609 ] فَصَدّهُ الْمُشْرِكُونَ ثُمّ غَزْوَةُ
خَيْبَرَ ، ثُمّ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ ثُمّ غَزْوَةُ الْفَتْحِ ، ثُمّ غَزْوَةُ
حُنَيْنٍ ، ثُمّ غَزْوَةُ الطّائِفِ ، ثُمّ غَزْوَةُ تَبُوكَ . قَاتَلَ مِنْهَا
فِي تِسْعِ غَزَوَاتٍ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، وَقُرَيْظَةَ
وَالْمُصْطَلِقِ وَخَيْبَرَ ، وَالْفَتْحِ وَحُنَيْنٍ ، وَالطّائِفِ .
ذِكْرُ
جُمْلَةِ السّرَايَا وَالْبُعُوثِ
وَكَانَتْ بُعُوثُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَسَرَايَاهُ ثَمَانِيّا وَثَلَاثِينَ ، مِنْ بَيْنَ بَعْثٍ وَسَرِيّةٍ غَزْوَةُ
عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَسْفَلَ مِنْ ثَنِيّةِ ذِي الْمَرْوَةِ ، ثُمّ
غَزْوَةُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب ِ سَاحِلَ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ
؛ وَبَعْضُ النّاسِ يُقَدّمُ غَزْوَةَ حَمْزَةَ قَبْلَ غَزْوَةِ عُبَيْدَةَ
وَغَزْوَةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ الْخَرّارَ ، وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
جَحْشٍ نَخْلَةَ ، وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْقَرَدَةَ وَغَزْوَةُ
مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَغَزْوَةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي
مَرْثَدٍ الْغَنَوِيّ الرّجِيعَ ، وَغَزْوَةُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو بِئْرَ
مَعُونَةَ ، وَغَزْوَةُ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ ذَا الْقَصّةِ مِنْ
طَرِيقِ الْعِرَاقِ ، وَغَزْوَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ تُرْبَةَ مِنْ أَرْضِ
بَنِي عَامِرٍ ، وَغَزْوَةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْيَمَنَ ، وَغَزْوَةُ
غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْكَلْبِيّ ، كَلْبِ لَيْثٍ الْكَدِيدَ ، فَأَصَابَ بَنِي
الْمُلَوّحِ .
خَبَرُ
غَزْوَةِ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ بَنِي الْمُلَوّحِ
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنّ يَعْقُوبَ بْنَ عُتْبَةَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ ، حَدّثَنِي عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ خُبَيْبٍ الْجُهَنِيّ عَنْ الْمُنْذِرِ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ مَكِيثٍ
الْجُهَنِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْكَلْبِيّ ، [ ص 610 ] كَلْبَ بْنِ عَوْفِ بْنِ
لَيْثٍ فِي سَرِيّةٍ كُنْت فِيهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشُنّ الْغَارَةَ عَلَى بَنِي
الْمُلَوّحِ ، وَهُمْ بِالْكَدِيدِ فَخَرَجْنَا ، حَتّى إذَا كُنّا بِقُدَيَدٍ
لَقِيَنَا الْحَارِثُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ ابْنُ الْبَرْصَاءِ اللّيْثِيّ
فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ إنّي جِئْت أُرِيدُ الْإِسْلَامَ مَا خَرَجْت إلّا إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْنَا لَهُ إنْ تَكُ مُسْلِمًا
فَلَنْ يَضِيرُك رِبَاطُ لَيْلَةٍ وَإِنْ تَكُ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ كُنّا قَدْ
اسْتَوْثَقْنَا مِنْك ، فَشَدَدْنَاهُ رِبَاطًا ، ثُمّ خَلّفْنَا عَلَيْهِ رَجُلًا
مِنْ أَصْحَابِنَا أَسْوَدَ وَقُلْنَا لَهُ إنْ عَازّك فَاحْتَزّ رَأْسَهُ
[ بَلَاءُ ابْنِ مَكِيثٍ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ]
قَالَ ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا الْكَدِيدَ عِنْدَ
غُرُوبِ الشّمْسِ فَكُنّا فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، وَبَعَثَنِي أَصْحَابِي
رَبِيئَةً لَهُمْ فَخَرَجْت حَتّى آتِيَ تَلّا مُشْرَفًا عَلَى الْحَاضِرِ
فَأَسْنَدْت فِيهِ فَعَلَوْتُ عَلَى رَأْسِهِ فَنَظَرْت إلَى الْحَاضِرِ
فَوَاَللّهِ إنّي لَمُنْبَطِحٌ عَلَى التّلّ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ خِبَائِهِ
فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ إنّي لَأَرَى عَلَى التّلّ سَوَادًا مَا رَأَيْته فِي
أَوّلِ يَوْمِي ، فَانْظُرِي إلَى أَوْعِيَتِك هَلْ تَفْقِدِينَ مِنْهَا شَيْئًا ،
لَا تَكُونُ الْكِلَابُ جَرّتْ بَعْضَهَا ؛ قَالَ فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ لَا ،
وَاَللّهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا ؛ قَالَ فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ
فَنَاوَلَتْهُ قَالَ فَأَرْسَلَ سَهْمًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَخَطَأ جَنْبِي ، فَأَنْزِعُهُ
فَأَضَعُهُ وَثَبّتّ مَكَانِي ، قَالَ ثُمّ أَرْسَلَ الْآخَرَ فَوَضَعَهُ فِي مَنْكِبِي
، فَأَنْزِعُهُ فَأَضَعُهُ وَثَبّتّ مَكَانِي ، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ لَوْ كَانَ
رَبِيئَةً لِقَوْمِ لَقَدْ تَحَرّكَ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ لَا أَبَا لَك ،
إذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِيهِمَا ، فَخُذِيهِمَا ، لَا يَمْضُغُهُمَا عَلَيّ
الْكِلَابُ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ .
قَالَ وَأَمْهَلْنَاهُمْ حَتّى إذَا اطْمَأَنّوا
وَنَامُوا ، وَكَانَ فِي وَجْهِ السّحَرِ شَنَنّا
[ ص 611 ] قَالَ فَقَتَلْنَا ، وَاسْتَقْنَا النّعَمَ
وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ فَجَاءَنَا دَهْمٌ لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ وَمَضَيْنَا
بِالنّعَمِ وَمَرَرْنَا بِابْنِ الْبَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ فاحتملناهما مَعَنَا ؛
قَالَ وَأَدْرَكْنَا الْقَوْمَ حَتّى قَرِبُوا مِنّا ، قَالَ فَمَا بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ إلّا وَادِي قُدَيْدٍ ، فَأَرْسَلَ اللّهُ الْوَادِيَ بِالسّيْلِ
مِنْ حَيْثُ شَاءَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، مِنْ غَيْرِ سَحَابَةٍ نَرَاهَا ، وَلَا
مَطَرٍ فَجَاءَ بِشَيْءِ لَيْسَ لِأَحَدِ بِهِ قُوّةٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يُجَاوِزَهُ فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إلَيْنَا ، وَإِنّا لَنَسُوقُ نَعَمَهُمْ مَا
يَسْتَطِيعُ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَنْ يُجِيزَ إلَيْنَا ، وَنَحْنُ نَحْدُوهَا
سِرَاعًا ، حَتّى فُتْنَاهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى طَلَبِنَا قَالَ
فَقَدِمْنَا بِهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنّ
شِعَارَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ تِلْكَ اللّيْلَةَ
أَمِتْ أَمِتْ . فَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ يَحْدُوهَا .
أَبَى أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ تَعَزّبِي ... فِي خَضِلٍ
نَبَاتُهُ مُغْلَوْلِبِ
صُفْرٍ أَعَالِيهِ كَلَوْنِ الْمُدْهَبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : " كَلَوْنِ
الذّهَبِ " . تَمّ خَبَرُ الْغُزَاةِ وَعُدْت إلَى ذِكْرِ تَفْصِيلِ
السّرَايَا وَالْبُعُوثِ .
[ تَعْرِيفٌ بِعِدّةِ غَزَوَاتٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ رَضِيَ اللّهِ عَنْهُ بَنِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدٍ [ ص 612 ] فَدَكَ ؛
وَغَزْوَةُ أَبِي الْعَوْجَاءِ السّلَمِيّ أَرْضَ بَنِي سُلَيْمٍ ، أُصِيبَ بِهَا هُوَ
وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا ؛ وَغَزْوَةُ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْغَمْرَةَ ؛
وَغَزْوَةُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ قَطَنًا ، مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ
بَنِي أَسَدٍ ، مِنْ نَاحِيَةِ نَجْدٍ ، قُتِلَ بِهَا مَسْعُودُ بْنُ عُرْوَةَ ؛
وَغَزْوَةُ مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ أَخِي بَنِي حَارِثَةَ " الْقُرَطَاءَ
مِنْ هَوَازِنَ ؛ وَغَزْوَةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ بَنِي مُرّةَ بِفَدَكَ
وَغَزْوَةُ بَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ نَاحِيَةَ خَيْبَرَ ، وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ الْجَمُومَ مِنْ أَرْضِ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ جُذَامَ ، مِنْ أَرْضِ خُشَيْنٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْ نَفْسِهِ
وَالشّافِعِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : مِنْ أَرْضِ
حِسْمَى .
غَزْوَةُ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إلَى جُذَامَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا كَمَا
حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ جُذَامَ كَانُوا عُلَمَاءَ بِهَا ،
أَنّ رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ ، لَمّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ عِنْدَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِكِتَابِهِ يَدْعُوهُمْ إلَى
الْإِسْلَامِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَدِمَ دِحْيَةُ بْنُ
خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ صَاحِبِ الرّومِ ، حِينَ بَعَثَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ لَهُ
حَتّى إذَا كَانُوا بِوَادٍ مِنْ أَوْدِيَتِهِمْ يُقَالُ لَهُ شَنَار ، أَغَارَ
عَلَى دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْهُنَيْدُ بْنُ عُوصٍ وَابْنُهُ عُوصُ بْنُ
الْهُنَيْدِ الضّلَعِيّانِ . وَالضّلَيْعُ : بَطْنٌ مِنْ جُذَامَ ، فَأَصَابَا
كُلّ شَيْءٍ كَانَ مَعَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ قَوْمًا مِنْ الضّبَيْبِ رَهْطُ رِفَاعَةَ
بْنِ زَيْدٍ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ وَأَجَابَ فَنَفَرُوا إلَى الْهُنَيْدِ
وَابْنِهِ فِيهِمْ مِنْ بَنِي الضّبَيْبِ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي جِعَالٍ ، حَتّى
لَقُوهُمْ فَاقْتَتَلُوا ، وَانْتَمَى يَوْمئِذٍ قُرّةُ بْنُ أَشْقَرَ الضّفَاوِيّ
ثُمّ الضّلَعِيّ فَقَالَ أَنَا ابْنُ لُبْنَى ، وَرَمَى النّعْمَانَ بْنَ أَبِي
جِعَالٍ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتِهِ فَقَالَ حِينَ أَصَابَهُ خُذْهَا وَأَنَا
ابْنُ لُبْنَى ، وَكَانَتْ لَهُ أُمّ تُدْعَى لُبْنَى ، وَقَدْ كَانَ حَسّانُ بْنُ
مِلّة الضّبَيْبِيّ قَدْ صَحِبَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلّمَهُ
أُمّ الْكِتَابِ . [ ص 613 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ قُرّةُ بْنُ
أَشْقَرَ الضّفَارِيّ " وَحَيّانُ بْنُ مِلّة . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ جُذَامَ ، قَالَ فَاسْتَنْقَذُوا
مَا كَانَ فِي يَدِ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ فَرَدّوهُ عَلَى دِحْيَةَ فَخَرَجَ
دِحْيَةُ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ وَاسْتَسْقَاهُ دَمَ الْهُنَيْدِ وَابْنِهِ فَبَعَثَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ،
وَذَلِكَ الّذِي هَاجَ غَزْوَةَ زَيْدٍ جُذَامَ ، وَبَعَثَ مَعَهُ جَيْشًا ،
وَقَدْ وَجّهَتْ غَطَفَانُ مِنْ جُذَامَ وَوَائِلٌ وَمَنْ كَانَ مِنْ سَلَامَانَ وَسَعْدُ
بْنُ هُذَيْمٍ حِين جَاءَهُمْ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكِتَابِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلُوا الْحَرّةَ ؛ حَرّةَ الرّجْلَاءِ ،
وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِكُرَاعِ رِبَةَ لَمْ يَعْلَمْ وَمَعَهُ نَاسٌ مِنْ
بَنِي الضّبَيْبِ وَسَائِرُ بَنِي الضّبَيْبِ بِوَادِي مَدَانٍ مِنْ نَاحِيَةِ
الْحَرّةِ ، مِمّا يَسِيلُ مُشَرّقًا ، وَأَقْبَلَ جَيْشُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
مِنْ نَاحِيَةِ الْأَوْلَاجِ ، فَأَغَارَ بِالْمَاقِصِ مِنْ قِبَلِ الْحَرّةِ ، فَجَمَعُوا
مَا وَجَدُوا مِنْ مَالٍ أَوْ نَاسٍ وَقَتَلُوا الْهُنَيْدَ وَابْنَهُ
وَرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي الْأَجْنَفِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ بَنِي الْأَحْنَفِ .
[ شَأْنُ حَسّانَ وَأُنَيْفٍ ابْنِي مِلّة ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ وَرَجُلًا مِنْ
بَنِي الْخَصِيبِ . فَلَمّا سَمِعَتْ بِذَلِكَ بَنُو الضّبَيْبِ وَالْجَيْشُ
بِفَيْفَاءِ مَدَانٍ رَكِبَ نَفَرٌ مِنْهُمْ وَكَانَ فِيمَنْ رَكِبَ مَعَهُمْ
حَسّانُ بْنُ مِلّة ، عَلَى فَرَسٍ لِسُوَيْدِ بْنِ زَيْدٍ يُقَالُ لَهَا
الْعَجَاجَةُ وَأُنَيْفُ بْنُ مِلّة عَلَى فَرَسٍ لِمَلّةَ يُقَالُ لَهَا :
رِغَالٌ وَأَبُو زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى فَرَسٍ يُقَال لَهَا شَمِرٌ ، فَانْطَلَقُوا
حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْجَيْشِ قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَحَسّانُ لِأُنَيْفِ بْنِ
مِلّة : كُفّ عَنّا وَانْصَرِفْ فَإِنّا نَخْشَى لِسَانَك ، فَوَقَفَ عَنْهُمَا ،
فَلَمْ يَبْعُدَا مِنْهُ حَتّى جَعَلَتْ فَرَسُهُ تَبْحَثُ بِيَدَيْهَا وَتَوَثّبَ
فَقَالَ لَأَنَا أَضَنّ بِالرّجُلَيْنِ مِنْك بِالْفَرَسَيْنِ فَأَرْخَى لَهَا ،
حَتّى أَدْرَكَهُمَا ، فَقَالَا لَهُ أَمّا إذَا فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ فَكُفّ عَنّا
لِسَانَك ، وَلَا تَشْأَمْنَا الْيَوْمَ فَتَوَاصَوْا أَنْ لَا يَتَكَلّمَ
مِنْهُمْ إلّا حَسّانُ بْنُ مِلّة ، وَكَانَتْ بَيْنَهُمْ كَلِمَةٌ فِي
الْجَاهِلِيّةِ قَدْ عَرَفَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ
أَنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ قَالَ بُورَى أَوْ ثُورَى ؛ فَلَمّا بَرَزُوا عَلَى
الْجَيْشِ أَقْبَلَ الْقَوْم يَبْتَدِرُونَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ حَسّانُ إنّا
قَوْمٌ مُسْلِمُونَ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَدْهَمَ
فَأَقْبَلَ يَسُوقُهُمْ فَقَالَ أُنَيْفٌ بُورَى ، فَقَالَ حَسّانُ مَهْلًا ؛
فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ قَالَ حَسّانُ إنّا قَوْمٌ
مُسْلِمُونَ فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ فَاقْرَءُوا أُمّ الْكِتَابِ فَقَرَأَهَا حَسّانُ
فَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ : نَادُوا فِي الْجَيْشِ أَنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْنَا
ثُغْرَةَ الْقَوْمِ الّتِي جَاءُوا مِنْهَا إلّا مَنْ خَتَرَ [ ص 614 ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِذَا أُخْتُ حَسّانَ بْنِ مِلّةَ ، وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي
وَبْرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الضّبَيْبِ فِي الْأُسَارَى ، فَقَالَ لَهُ
زَيْدٌ خُذْهَا ، وَأَخَذَتْ بِحَقْوَيْهِ فَقَالَتْ أُمّ الْفِزْرِ الضّلَعِيّة :
أَتَنْطَلِقُونَ بِبَنَاتِكُمْ وَتَذَرُونَ أُمّهَاتِكُمْ ؟ فَقَالَ أَحَدُ بَنِي الْخَصِيبِ
إنّهَا بَنُو الضّبَيْبِ وَسِحْرُ أَلْسِنَتِهِمْ سَائِرَ الْيَوْمِ فَسَمِعَهَا
بَعْضُ الْجَيْشِ فَأَخْبَرَ بِهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، فَأَمَرَ بِأُخْتِ
حَسّانَ فَفُكّتْ يَدَاهَا مِنْ حِقْوَيْهِ وَقَالَ لَهَا : اجْلِسِي مَعَ بَنَاتِ
عَمّك حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ فِيكُنّ حُكْمَهُ فَرَجَعُوا ، وَنَهَى الْجَيْشَ
أَنْ يَهْبِطُوا إلَى وَادِيهِمْ الّذِي جَاءُوا مِنْهُ فَأَمْسَوْا فِي
أَهْلِيهِمْ وَاسْتَعْتَمُوا ذَوْدًا لِسُوَيْدِ بْنِ زَيْدٍ فَلَمّا شَرِبُوا عَتَمَتَهُمْ
رَكِبُوا إلَى رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ وَكَانَ مِمّنْ رَكِبَ إلَى رِفَاعَةَ بْنِ
زَيْدٍ تِلْكَ اللّيْلَةَ أَبُو زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَأَبُو شِمَاسِ بْنِ
عَمْرٍو ، وَسُوَيْد بْنُ زَيْدٍ ، وَبَعْجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبَرْذَع بْنُ زَيْدٍ
وَثَعْلَبَةُ بْنُ زَيْدٍ وَمُخَرّبَةُ بْنُ عَدِيّ وَأُنَيْفُ بْنُ مِلّةَ ،
وَحَسّانُ [ ص 615 ] ، حَتّى صَبّحُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ بِكُرَاعِ رِبَةَ
بِظَهْرِ الْحَرّةِ ، عَلَى بِئْرٍ هُنَالِكَ مِنْ حَرّةِ لَيْلَى ، فَقَالَ لَهُ
حَسّانُ بْنُ مِلّةَ : إنّك لَجَالِسٌ تَحْلُب الْمِعْزَى وَنِسَاءُ جُذَامَ
أُسَارَى قَدْ غَرّهَا كِتَابُك الّذِي جِئْت بِهِ فَدَعَا رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ بِجَمَلِ
لَهُ فَجَعَلَ يَشُدّ عَلَيْهِ رَحْلَهُ وَهُوَ يَقُولُ هَلْ أَنْتَ حَيّ أَوْ
تُنَادِي حَيّا
ثُمّ غَدَا وَهُمْ مَعَهُ بِأُمَيّةِ بْنِ ضَفَارَةَ
أَخِي الْخَصِيبِيّ الْمَقْتُولِ مُبَكّرِينَ مِنْ ظَهْرِ الْحَرّةِ ، فَسَارُوا
إلَى جَوْفِ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمّا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ ،
وَانْتَهَوْا إلَى الْمَسْجِدِ نَظَرَ إلَيْهِمْ رَجُلٌ مِنْ النّاسِ فَقَالَ لَا
تُنِيخُوا إبِلَكُمْ فَتُقَطّعَ أَيْدِيَهُنّ ، فَنَزَلُوا عَنْهُنّ وَهُنّ
قِيَامٌ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَرَآهُمْ أَلَاحَ إلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ تُعَالُوا مِنْ وَرَاءِ النّاسِ
فَلَمّا اسْتَفْتَحَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْمَنْطِقَ قَامَ رَجُلٌ مِنْ النّاسِ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ سَحَرَةٌ فَرَدّدَهَا مَرّتَيْنِ
فَقَالَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ رَحِمَ اللّهُ مَنْ لَمْ يَحْذُنَا فِي يَوْمِهِ
هَذَا إلّا خَيْرًا . ثُمّ دَفَعَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ كِتَابَهُ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَانَ كَتَبَهُ لَهُ . فَقَالَ
دُونَك يَا رَسُولَ اللّهِ قَدِيمًا كِتَابُهُ حَدِيثًا غَدْرُهُ . فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اقْرَأْهُ يَا غُلَامُ وَأَعْلِنْ
؛ فَلَمّا قَرَأَ كِتَابَهُ اسْتَخْبَرَهُ فَأَخْبَرُوهُمْ الْخَبَرَ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَيْفَ أَصْنَعُ بِالْقَتْلَى ؟ ( ثَلَاثَ مَرّاتٍ
) . فَقَالَ رِفَاعَةُ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْلَمُ لَا نُحَرّمُ عَلَيْك
حَلَالًا ، وَلَا نُحَلّلُ لَك حَرَامًا ، فَقَالَ أَبُو زَيْدِ بْنُ عَمْرٍو :
أَطْلِقْ لَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ كَانَ حَيّا ، وَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ
تَحْتَ قَدَمِي هَذِهِ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ صَدَقَ أَبُو زَيْدٍ ، ارْكَبْ مَعَهُمْ يَا عَلِيّ . فَقَالَ لَهُ
عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّ زَيْدًا لَنْ يُطِيعَنِي يَا رَسُولَ اللّهِ
قَالَ فَخُذْ سَيْفِي هَذَا ، فَأَعْطَاهُ سَيْفَهُ فَقَالَ عَلِيّ : لَيْسَ لِي
يَا رَسُولَ اللّهِ رَاحِلَةٌ أَرْكَبُهَا ، فَحَمَلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ لِثَعْلَبَةَ
بْنِ عَمْرٍو ، يُقَالُ لَهُ مِكْحَالٌ فَخَرَجُوا ، فَإِذَا رَسُولٌ لِزَيْدِ
بْنِ حَارِثَةَ عَلَى نَاقَةٍ [ ص 616 ] أَبِي وَبْرٍ يُقَالُ لَهَا : الشّمْر ،
فَأَنْزَلُوهُ عَنْهَا . فَقَالَ يَا عَلِيّ مَا شَأْنِي ؟ فَقَالَ مَا لَهُمْ
عَرَفُوهُ فَأَخَذُوهُ ثُمّ سَارُوا فَلَقَوْا الْجَيْشَ بِفَيْفَاءِ
الْفَحْلَتَيْنِ فَأَخَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ حَتّى كَانُوا يَنْزِعُونَ
لَبِيدَ الْمَرْأَةِ مِنْ تَحْتِ الرّحْلِ فَقَالَ أَبُو جِعَالٍ حِينَ فَرَغُوا
مِنْ شَأْنِهِمْ
وَعَاذِلَةٍ وَلَمْ تَعْذُلْ بِطِبّ ... وَلَوْلَا
نَحْنُ حُشّ بِهَا السّعِيرَ
تُدَافِعُ فِي الْأُسَارَى بِابْنَتَيْهَا ... وَلَا
يُرْجَى لَهَا عِتْقٌ يَسِيرُ
وَلَوْ وُكِلَتْ إلَى عُوصٍ وَأَوْسٍ ... لَحَارَ بِهَا
عَنْ الْعِتْقِ الْأُمُورُ
وَلَوْ شَهِدَتْ رَكَائِبَنَا بِمِصْرٍ ... تُحَاذِرُ
أَنْ يُعَلّ بِهَا الْمَسِيرُ
وَرَدْنَا مَاءَ يَثْرِبَ عَنْ حِفَاظٍ ... لِرَبْعٍ
إنّهُ قَرَبَ ضَرِيرُ
بِكُلّ مُجَرّبٍ كَالسّيدِ نَهْدٍ ... عَلَى أَقْتَادِ
نَاجِيَةٍ صَبُورُ
فِدًى لِأَبِي سُلَيْمَى كُلّ جَيْشٍ ... بِيَثْرِبَ إذْ
تَنَاطَحَتْ النّحُورُ
غَدَاةَ تَرَى الْمُجَرّبَ مُسْتَكِينًا ... خِلَافَ
الْقَوْمِ هَامَتُهُ تَدُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " وَلَا يُرْجَى
لَهَا عِتْقٌ يَسِيرُ " : وَقَوْلُهُ " عَنْ الْعِتْقِ الْأُمُورُ " عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ . تَمّتْ الْغَزَاةُ وَعُدْنَا إلَى تَفْصِيلِ ذِكْرِ السّرَايَا
وَالْبُعُوثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَيْضًا
الطّرَفَ مِنْ نَاحِيَةِ نَخْلٍ . مِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ .
غَزْوَةُ
زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ بَنِي فَزَارَةَ وَمُصَابُ أُمّ قِرْفَةَ
[ ص 617 ] زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَيْضًا وَادِيَ
الْقُرَى ، لَقِيَ بِهِ بَنِي فَزَارَةَ فَأُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ
وَارْتُثّ زَيْدٌ مِنْ بَيْنَ الْقَتْلَى ، وَفِيهَا أُصِيبَ وَرْدُ بْنُ عَمْرِو
بْنِ مَدَاشٍ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ ، أَصَابَهُ أَحَدُ بَنِي
بَدْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
فَلَمّا قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ آلَى أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهُ غُسْلٌ مِنْ
جَنَابَةٍ حَتّى يَغْزُوَ بَنِي فَزَارَةَ ، فَلَمّا اسْتَبَلّ مِنْ جِرَاحَتِهِ
بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي فَزَارَة َ
فِي جَيْشٍ فَقَتَلَهُمْ بِوَادِي الْقُرَى ، وَأَصَابَ فِيهِمْ وَقَتَلَ قَيْسَ
بْنَ الْمُسَحّرِ الْيَعْمُرِيّ مَسْعَدَةَ بْنَ حَكَمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ ، وَأُسِرَتْ أُمّ قِرْفَةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ
بْنِ بَدْرٍ كَانَتْ عَجُوزًا كَبِيرَةٌ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ
، وَبِنْتٌ لَهَا ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعَدَةَ ، فَأَمَرَ زَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ قَيْسَ بْنَ الْمُسَحّرِ أَنْ يَقْتُلَ أُمّ قِرْفَةَ فَقَتَلَهَا
قَتْلًا عَنِيفًا ؛ ثُمّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِابْنَةِ أُمّ قِرْفَةَ وَبِابْنِ مَسْعَدَةَ .
[ شَأْنُ أُمّ قِرْفَةَ ]
وَكَانَتْ بِنْتُ أُمّ قِرْفَةَ لِسَلَمَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْأَكْوَعِ كَانَ هُوَ الّذِي أَصَابَهَا ، وَكَانَتْ فِي بَيْتِ شَرَفٍ
مِنْ قَوْمِهَا ؛ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ ( لَوْ كُنْتَ أَعَزّ مِنْ أُمّ
قِرْفَةَ مَا زِدْت ) . فَسَأَلَهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سَلَمَةُ فَوَهَبَهَا لَهُ فَأَهْدَاهَا لِخَالِهِ حَزْنَ بْنَ أَبِي وَهْبٍ فَوَلَدَتْ
لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ حَزْنٍ
.
[ شِعْرُ ابْن الْمُسَحّرِ فِي قَتْلِ مَسْعَدَةَ ]
فَقَالَ قَيْسُ بْنُ الْمُسَحّرِ فِي قَتْلِ مَسْعَدَةَ
[ ص 618 ]
سَعَيْتُ بِوَرْدٍ مِثْلَ سَعْيِ ابْنِ أُمّهِ ...
وَإِنّي بِوَرْدٍ فِي الْحَيَاةِ لَثَائِرُ
كَرَرْتُ عَلَيْهِ الْمُهْرَ لَمّا رَأَيْتُهُ ... عَلَى
بَطَلٍ مِنْ آلِ بَدْرٍ مُغَاوِرِ
فَرَكّبْتُ فِيهِ قَعْضَبِيّا كَأَنّهُ ... شِهَابٌ
بِمَعْرَاةَ يُذَكّى لِنَاظِرِ
غَزْوَةُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ لِقَتْلِ الْيَسِيرِ بْنِ رِزَامٍ
وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ خَيْبَرَ
مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا الّتِي أَصَابَ فِيهَا الْيَسِيرَ بْنَ رِزَامٍ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ رَازِمٍ .
[ مَقْتَلُ الْيَسِيرِ ]
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ الْيَسِيرِ بْنِ رِزَامٍ أَنّهُ
كَانَ بِخَيْبَرِ يَجْمَعُ غَطَفَانَ لِغَزْوِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَيْهِ كَلّمُوهُ
وَقَرّبُوا لَهُ وَقَالُوا لَهُ إنّك إنْ قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعْمَلَك وَأَكْرَمَك ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى
خَرَجَ مَعَهُمْ فِي نَفَرٍ مِنْ يَهُودَ فَحَمَلَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ
عَلَى بَعِيرِهِ حَتّى إذَا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ مِنْ خَيْبَرَ ، عَلَى سِتّةِ
أَمْيَالٍ نَدِمَ الْيَسِيرُ بْنُ رِزَامٍ عَلَى مَسِيرِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَطَنَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، وَهُوَ
يُرِيدُ السّيْفَ فَاقْتَحَمَ بِهِ ثُمّ ضَرَبَهُ بِالسّيْفِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ
وَضَرَبَهُ الْيَسِيرُ بِمِخْرَشٍ فِي يَدِهِ مِنْ شَوْحَطٍ فَأَمّهُ وَمَالَ كُلّ
[ ص 619 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ يَهُودَ
فَقَتَلَهُ إلّا رَجُلًا وَاحِدًا أَفْلَتْ عَلَى رِجْلَيْهِ فَلَمّا قَدِمَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَفَلَ عَلَى شَجّتِهِ فَلَمْ تَقِحْ وَلَمْ تُؤْذِهِ .
[ غَزْوَةُ ابْنِ عَتِيكٍ خَيْبَرَ ]
وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَتِيكٍ خَيْبَرَ ،
فَأَصَابَ بِهَا أَبَا رَافِعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ .
غَزْوَةُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ لِقَتْلِ خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ
الْهُذَلِيّ
وَغَزْوَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ خَالِدَ بْنِ
سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إلَيْهِ وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ يَجْمَعُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ لِيَغْزُوهُ فَقَتَلَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ
بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ :
دَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّهُ قَدْ
بَلَغَنِي أَنّ ابْنَ سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيّ يَجْمَعُ لِي النّاسَ
لِيَغْزُونِي ، وَهُوَ بِنَخْلَةَ أَوْ بِعُرَنَةَ فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ . قُلْت :
يَا رَسُولَ اللّهِ انْعَتْهُ لِي حَتّى أَعْرِفَهُ . قَالَ إنّك إذَا رَأَيْته أَذْكَرَك
الشّيْطَانَ وَآيَةُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُ أَنّك إذَا رَأَيْته وَجَدْت لَهُ
قُشَعْرِيرَةً . قَالَ فَخَرَجْت مُتَوَشّحًا سَيْفِي ، حَتّى دُفِعْت إلَيْهِ
وَهُوَ فِي ظُعُنٍ يَرْتَادُ لَهُنّ مَنْزِلًا ، وَحَيْثُ كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ
فَلَمّا رَأَيْته وَجَدْت مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْ الْقُشَعْرِيرَةِ فَأَقْبَلْت نَحْوَهُ وَخَشِيت أَنْ تَكُونَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ مُجَاوَلَةٌ تَشْغَلُنِي عَنْ الصّلَاةِ فَصَلّيْت وَأَنَا أَمْشِي
نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِي ، فَلَمّا انْتَهَيْت إلَيْهِ قَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟
قُلْت : رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ سَمِعَ بِك وَبِجَمْعِك لِهَذَا الرّجُلِ فَجَاءَك لِذَلِكَ
. [ ص 620 ] قَالَ أَجَلْ إنّي لَفِي ذَلِكَ . قَالَ فَمَشَيْت مَعَهُ شَيْئًا ،
حَتّى إذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْت عَلَيْهِ بِالسّيْفِ فَقَتَلْته ، ثُمّ خَرَجْت ،
وَتَرَكْت ظَعَائِنَهُ مُنْكَبّاتٌ عَلَيْهِ فَلَمّا قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَآنِي ، قَالَ أَفْلَحَ الْوَجْهُ قُلْت : قَدْ
قَتَلْته يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ صَدَقْت .
[ إهْدَاءُ الرّسُولِ عَصًا لَابْن أُنَيْسٍ ]
ثُمّ قَامَ بِي ، فَأَدْخَلَنِي بَيْتَهُ فَأَعْطَانِي
عَصًا ، فَقَالَ أَمْسِكْ هَذِهِ الْعَصَا عِنْدَك يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ
أُنَيْسٍ . قَالَ فَخَرَجْت بِهَا عَلَى النّاسِ فَقَالُوا : مَا هَذِهِ الْعَصَا ؟ قُلْت
: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمَرَنِي أَنْ
أُمْسِكَهَا عِنْدِي . قَالُوا : أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَسْأَلَهُ لِمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ فَرَجَعْت إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَ
أَعْطَيْتنِي هَذِهِ الْعَصَا ؟ قَالَ آيَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَك يَوْمَ
الْقِيَامَةِ . إنّ أَقَلّ النّاسِ الْمُتَخَصّرُونَ يَوْمئِذٍ قَالَ فَقَرَنَهَا
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ حَتّى مَاتَ ثُمّ
أَمَرَ بِهَا فَضُمّتْ فِي كَفَنِهِ ثُمّ دُفِنَا جَمِيعًا .
[ شِعْرُ بْنِ أُنَيْسٍ فِي قَتْلِهِ ابْنَ نُبَيْحٍ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أُنَيْسٍ فِي ذَلِكَ [ ص 621 ]
تَرَكْتُ ابْنَ ثَوْرٍ كَالْحُوَارِ وَحَوْلَهُ ...
نَوَائِحُ تَفْرِي كُلّ جَيْبٍ مُقَدّدِ
تَنَاوَلْتُهُ وَالظّعْنُ خَلْفِي وَخَلْفَهُ ...
بِأَبْيَضَ مِنْ مَاءِ الْحَدِيدِ مُهَنّدِ
عَجُومٍ لِهَامِ الدّارِعِينَ كَأَنّهُ ... شِهَابٌ
غَضًى مِنْ مُلْهَبٍ مُتَوَقّدِ
أَقُولُ لَهُ وَالسّيْفُ يَعْجُمُ رَأْسَهُ ... أَنَا
ابْنُ أُنَيْسٍ فَارِسًا غَيْرَ قُعْدُدِ
أَنَا ابْنُ الّذِي لَمْ يُنْزِلْ الدّهَرُ قِدْرَهُ ...
رَحِيبُ فِنَاءِ الدّارِ غَيْرُ مُزَنّدِ
وَقُلْتُ لَهُ خُذْهَا بِضَرْبَةِ مَاجِدٍ ... حَنِيفٍ
عَلَى دِينِ النّبِيّ مُحَمّدِ
وَكُنْتُ إذَا هَمّ النّبِيّ بِكَافِرٍ ... سَبَقْتُ
إلَيْهِ بِاللّسَانِ وَبِالْيَدِ
تَمّتْ الْغَزَاةُ وَعُدْنَا إلَى خَبَرِ الْبُعُوثِ .
[ غَزَوَاتٌ أُخَرُ
]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ زَيْدِ بْنِ
حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ مُؤْتَةَ
مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَأُصِيبُوا بِهَا جَمِيعًا ، وَغَزْوَةُ كَعْبِ بْنِ
عُمَيْرٍ الْغِفَارِيّ ذَاتَ أَطْلَاحٍ ، مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، أُصِيبَ بِهَا
هُوَ وَأَصْحَابُهُ جَمِيعًا . وَغَزْوَةُ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ
بْنِ بَدْرٍ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ .
غَزْوَةُ
عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ بَنِي الْعَنْبَرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ فَأَغَارَ عَلَيْهِمْ فَأَصَابَ
مِنْهُمْ أَنَاسًا . وَسَبَى مِنْهُمْ أُنَاسًا . فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ
بْنِ قَتَادَةَ : أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ عَلَيّ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ . قَالَ
هَذَا سَبْيُ بَنِي الْعَنْبَرِ يَقْدَمُ الْآنَ ، فَنُعْطِيك مِنْهُمْ إنْسَانًا
فَتُعْتِقِينَهُ .
[ بَعْضُ مَنْ سُبِيَ وَبَعْضُ مَنْ قُتِلَ وَشِعْرُ سَلْمَى فِي
ذَلِكَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قُدِمَ بِسَبْيِهِمْ
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَكِبَ فِيهِمْ وَفْدٌ مِنْ
بَنِي تَمِيمٍ ، حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مِنْهُمْ رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعٍ ، وَسَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو . وَالْقَعْقَاعُ
بْنُ مَعْبَدٍ وَوَرْدَانُ بْنُ مُحْرِزٍ [ ص 622 ] وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، وَمَالِكُ
بْنُ عَمْرٍو ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَفِرَاسُ بْنُ حَابِسٍ فَكَلّمُوا
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِمْ فَأَعْتَقَ بَعْضًا ،
وَأَفْدَى بَعْضًا ، وَكَانَ مِمّنْ قُتِلَ يَوْمئِذٍ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ
عَبْدُ اللّهِ وَأَخَوَانِ لَهُ بَنُو وَهْبٍ وَشَدّادُ بْنُ فِرَاسٍ وَحَنْظَلَةُ
بْنُ دَارِمٍ وَكَانَ مِمّنْ سُبِيَ مِنْ نِسَائِهِمْ يَوْمئِذٍ أَسَمَاءُ بِنْتُ
مَالِكٍ وَكَاسٍ بِنْتُ أَرِي ، وَنَجْوَةُ بِنْتُ نَهْدٍ وَجُمَيْعَةُ بِنْتُ
قَيْسٍ ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ مَطَرٍ . فَقَالَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَلْمَى
بِنْتُ عَتّابٍ
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَتْ عَدِيّ بْنُ جُنْدَبٍ ... مِنْ
الشّرّ مَهْوَاةً شَدِيدًا كَئُودهَا
تَكَنّفَهَا الْأَعْدَاءُ مِنْ كُلّ جَانِبٍ ...
وَغُيّبَ عَنْهَا عِزّهَا وَجُدُودُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ فِي ذَلِكَ
وَعِنْدَ رَسُولِ اللّهِ قَامَ ابْنُ حَابِسٍ ...
بِخُطّةِ سَوّارٍ إلَى الْمَجْدِ حَازِمِ
لَهُ أَطْلَقَ الْأَسْرَى الّتِي فِي حِبَالِهِ ...
مُغَلّلَةً أَعْنَاقُهَا فِي الشّكَائِمِ
كَفَى أُمّهَاتِ الْخَالِفِينَ عَلَيْهِمْ ... غِلَاءَ
الْمُفَادِي أَوْ سِهَامَ الْمَقَاسِمِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَعَدِيّ
بْنُ جُنْدُبٍ مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ وَالْعَنْبَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ .
غَزْوَةُ
غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَرْضَ بَنِي مُرّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ الْكَلْبِيّ - كَلْبِ لَيْثٍ - أَرْضَ بَنِي مُرّةَ ، فَأَصَابَ بِهَا
مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ ، حَلِيفًا لَهُمْ مِنْ الْحُرْقَةِ ، مِنْ جُهَيْنَةَ ،
قَتَلَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ . [ ص 623 ] قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : الْحُرْقَةُ ، فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ أَدْرَكْته
أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَلَمّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السّلَاحَ قَالَ
أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . قَالَ فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتّى
قَتَلْنَاهُ فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَخْبَرْنَاهُ خَبَرَهُ فَقَالَ يَا أُسَامَةُ مَنْ لَك بِلَا إلَهَ إلّا
اللّهُ ؟ قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ إنّمَا قَالَهَا تَعَوّذًا بِهَا
مِنْ الْقَتْلِ . قَالَ فَمَنْ لَك بِهَا يَا أُسَامَةُ ؟ قَالَ فَوَاَلّذِي
بَعَثَهُ بِالْحَقّ مَا زَالَ يُرَدّدُهَا عَلَيّ حَتّى لَوَدِدْت أَنّ مَا مَضَى مِنْ
إسْلَامِي لَمْ يَكُنْ وَأَنّي كُنْت أَسْلَمْت يَوْمئِذٍ وَأَنّي لَمْ أَقْتُلْهُ
قَالَ قُلْت : أَنْظِرْنِي يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُعَاهِدُ اللّهَ أَنْ لَا
أَقْتُلَ رَجُلًا يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ أَبَدًا ، قَالَ تَقُولُ بَعْدِي
يَا أُسَامَةُ قَالَ قُلْت بَعْدَك
.
غَزْوَةُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ذَاتَ السّلَاسِلِ
وَغَزْوَةُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ذَاتَ السّلَاسِلِ
مِنْ أَرْضِ بَنِي عُذْرَةَ . وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَهُ يَسْتَنْفِرُ الْعَرَبَ إلَى الشّامِ . وَذَلِكَ أَنّ أُمّ
الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ بَلِيّ ، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ يَسْتَأْلِفُهُمْ لِذَلِكَ حَتّى إذَا
كَانَ عَلَى مَاءٍ بِأَرْضِ جُذَامَ ، يُقَالُ لَهُ السّلْسَلُ ، وَبِذَلِكَ
سُمّيَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزْوَةَ ذَاتِ السّلَاسِلِ ؛ فَلَمّا كَانَ عَلَيْهِ
خَافَ فَبَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَمِدّهُ
فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا عُبَيْدَةَ
بْنِ الْجَرّاحِ فِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوّلِينَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَقَالَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ حِينَ وَجّهَهُ لَا تَخْتَلِفَا ؛ فَخَرَجَ أَبُو
عُبَيْدَةَ حَتّى إذَا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ عَمْرٌو : إنّمَا جِئْتَ مَدَدًا لِي ؛ قَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ لَا ، وَلَكِنّي عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَنْتَ عَلَى مَا
أَنْتَ عَلَيْهِ [ ص 624 ] وَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ رَجُلًا لَيّنًا سَهْلًا ، هَيّنًا
عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : بَلْ أَنْتَ مَدَدٌ لِي ؛ فَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ يَا عَمْرُو ، وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ لِي : لَا تَخْتَلِفَا ، وَإِنّك إنْ عَصَيْتَنِي أَطَعْتُك ،
قَالَ فَإِنّي الْأَمِيرُ عَلَيْك ، وَأَنْتَ مَدَدٌ لِي ، قَالَ فَدُونَك .
فَصَلّى عَمْرٌو بِالنّاسِ .
[ وَصِيّةُ أَبِي بَكْرٍ رَافِعَ بْنَ رَافِعٍ ]
قَالَ وَكَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ
أَنّ رَافِعَ بْنَ أَبِي رَافِعٍ الطّائِيّ وَهُوَ رَافِعُ بْنُ عَمِيرَةَ كَانَ
يُحَدّثُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ نَفْسِهِ قَالَ كُنْت امْرَأً نَصْرَانِيّا ، وَسُمّيت
سَرْجِسَ فَكُنْت أَدَلّ النّاسِ وَأَهْدَاهُمْ بِهَذَا الرّمَلِ كُنْت أَدْفِنُ
الْمَاءَ فِي بَيْضِ النّعَامِ بِنَوَاحِي الرّمْلِ فِي الْجَاهِلِيّةِ ثُمّ
أُغِيرُ عَلَى إبِلِ النّاسِ فَإِذَا أَدْخَلْتهَا الرّمْلَ غَلَبْتُ عَلَيْهَا ،
فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَطْلُبُنِي فِيهِ حَتّى أَمُرّ بِذَلِكَ الْمَاءِ
الّذِي خَبّأْت فِي بَيْضِ النّعَامِ فَأَسْتَخْرِجُهُ فَأَشْرَبُ مِنْهُ فَلَمّا
أَسْلَمْت خَرَجْت فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ الّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إلَى ذَاتِ السّلَاسِلِ ؛
قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَأَخْتَارَنّ لِنَفْسِي صَاحِبًا ؛ قَالَ فَصَحِبْت أَبَا
بَكْرٍ قَالَ فَكُنْت مَعَهُ فِي رَحْلِهِ قَالَ وَكَانَتْ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ
لَهُ فَدَكِيّةٌ فَكَانَ إذَا نَزَلْنَا بَسَطَهَا وَإِذَا رَكِبْنَا لَبِسَهَا ،
ثُمّ شَكّهَا عَلَيْهِ بِخِلَالِ لَهُ قَالَ وَذَلِكَ الّذِي لَهُ يَقُولُ أَهْلُ
نَجْدٍ حِينَ ارْتَدّوا كُفّارًا
: نَحْنُ نُبَايِعُ ذَا الْعَبَاءَةِ قَالَ فَلَمّا
دَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ قَافِلِينَ قَالَ قُلْت : يَا أَبَا بَكْرٍ إنّمَا
صَحِبْتُك لِيَنْفَعَنِي اللّهُ بِك ، فَانْصَحْنِي وَعَلّمْنِي ، قَالَ لَوْ لَمْ
تَسْأَلْنِي ذَلِكَ لَفَعَلْت ، قَالَ آمُرُك أَنْ تُوَحّدَ اللّهَ وَلَا تُشْرِكَ
بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تُقِيمَ الصّلَاةَ وَأَنْ تُؤْتِيَ الزّكَاةَ وَتَصُومَ
رَمَضَانَ وَتَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ وَتَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَلَا
تَتَأَمّرْ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبَدًا . قَالَ قُلْت : يَا أَبَا
بَكْرٍ أَمَا أَنَا وَاَللّهِ فَإِنّي أَرْجُو أَنْ لَا أُشْرِكَ بِاَللّهِ
أَحَدًا أَبَدًا ؛ وَأَمّا الصّلَاةُ فَلَنْ أَتْرُكَهَا أَبَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ
وَأَمّا الزّكَاةُ فَإِنْ يَكُ لِي مَالٌ أُؤَدّهَا إنْ شَاءَ اللّهُ وَأَمّا
رَمَضَانُ فَلَنْ أَتْرُكَهُ أَبَدًا إنْ شَاءَ اللّهُ وَأَمّا الْحَجّ فَإِنْ
أَسْتَطِعْ أَحُجّ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ؛ وَأَمّا الْجَنَابَةُ فَسَأَغْتَسِلُ
مِنْهَا إنْ شَاءَ اللّهُ وَأَمّا الْإِمَارَةُ فَإِنّي رَأَيْت النّاسَ يَا أَبَا
بَكْرٍ لَا يَشْرُفُونَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ [ ص 625 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَعِنْدَ النّاسِ إلّا بِهَا ، فَلِمَ تَنْهَانِي عَنْهَا ؟ قَالَ إنّك
إنّمَا اسْتَجْهَدْتَنِي لِأَجْهَدَ لَك ، وَسَأُخْبِرُك عَنْ ذَلِكَ إنْ اللّهُ
عَزّ وَجَلّ بَعَثَ مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَذَا الدّينِ
فَجَاهَدَ عَلَيْهِ حَتّى دَخَلَ النّاسُ فِيهِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، فَلَمّا
دَخَلُوا فِيهِ كَانُوا عُوَاذَ اللّهِ وَجِيرَانَهُ وَفِي ذِمّتِهِ فَإِيّاكَ لَا
تُخْفِرْ اللّهَ فِي جِيرَانِهِ فَيُتْبِعَك اللّهُ خَفْرَتَهُ فَإِنّ أَحَدَكُمْ يُخْفَرُ
فِي جَارِهِ فَيَظِلّ نَاتِئًا عَضَلَهُ غَضَبًا لِجَارِهِ أَنْ أُصِيبَتْ لَهُ
شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ فَاَللّهُ أَشَدّ غَضَبًا لِجَارِهِ . قَالَ فَفَارَقْته عَلَى ذَلِكَ .
قَالَ فَلَمّا قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُمّرَ
أَبُو بَكْرٍ عَلَى النّاسِ قَالَ قَدِمْت عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ
أَلَمْ تَكُ نَهَيْتَنِي عَنْ أَنْ أَتَأَمّرَ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ بَلَى ، وَأَنَا الْآنَ أَنَهَاك عَنْ ذَلِكَ قَالَ
فَقُلْت لَهُ فَمَا حَمْلُك عَلَى أَنْ تَلِيَ أَمْرَ النّاسِ ؟ قَالَ لَا أَجِدُ
مِنْ ذَلِكَ بُدّا ، خَشِيت عَلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْفُرْقَةَ
[ تَقْسِيمُ عَوْفٍ الْأَشْجَعِيّ الْجَزُورَ بَيْنَ قَوْمٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي
حَبِيبٍ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيّ ، قَالَ كُنْت فِي
الْغَزَاةِ الّتِي بَعَثَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرَو
بْنَ الْعَاصِ إلَى ذَاتِ السّلَاسِلِ ، قَالَ فَصَحِبْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
فَمَرَرْتُ بِقَوْمِ عَلَى جَزُورٍ لَهُمْ قَدْ نَحَرُوهَا ، وَهُمْ لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُعْضُوهَا ، قَالَ وَكُنْت امْرَأً لَبِقًا جَازِرًا ،
قَالَ فَقُلْت : أَتُعْطُونَنِي مِنْهَا عَشِيرًا عَلَى أَنْ أَقَسَمَهَا
بَيْنَكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَأَخَذْت الشّفْرَتَيْنِ فَجَزّأْتهَا
مَكَانِي ، وَأَخَذْت مِنْهَا جُزْءًا ، فَحَمَلْته إلَى أَصْحَابِي ، فَاطّبَخْنَاهُ
فَأَكَلْنَاهُ . فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا :
أَنّى لَك هَذَا اللّحْمُ يَا عَوْفُ ؟ قَالَ فَأَخْبَرْتهمَا خَبَرَهُ فَقَالَا :
وَاَللّهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ [ ص 626 ] قَالَ فَلَمّا قَفَلَ النّاسُ مِنْ
ذَلِكَ السّفَرِ كُنْت أَوّلَ قَادِمٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ فَجِئْته وَهُوَ يُصَلّي فِي بَيْتِهِ قَالَ فَقُلْت : السّلَامُ
عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ قَالَ أَعَوْفُ بْنُ
مَالِكٍ ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ؛ قَالَ أَصَاحِبُ الْجَزُورِ
؟ وَلَمْ يَزِدْنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ
شَيْئًا .
غَزْوَةُ
ابْن أَبِي حَدْرَدٍ بَطْنَ إضَمَ وَقَتْلُ عَامِرِ بْنِ الْأَضْبَطِ
الْأَشْجَعِيّ
وَغَزْوَةُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ وَأَصْحَابِهِ بَطْنَ
إضَمَ ، وَكَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَزِيدُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي حَدْرَدٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ بَعَثَنَا
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى إضَمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيّ ، وَمُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ
بْنِ قَيْسٍ ، فَخَرَجْنَا حَتّى إذَا كُنّا بِبَطْنِ إضَمَ ، مَرّ بِنّا عَامِرُ
بْنُ الْأَضْبَطِ الْأَشْجَعِيّ ، عَلَى قَعُودٍ لَهُ وَمَعَهُ مُتَيّعٌ لَهُ
وَوَطْبٌ مِنْ لَبَنٍ . قَالَ فَلَمّا مَرّ بِنَا سَلّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيّةِ
الْإِسْلَامِ فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ ، فَقَتَلَهُ
لِشَيْءِ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَأَخَذَ مُتَيّعَهُ .
قَالَ فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ ، نَزَلَ فِينَا : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا
إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى
إِلَيْكُمُ السّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا }
إلَى آخِرِ الْآيَةِ . [ ص 627 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَرَأَ أَبُو عَمْرِو بْنِ
الْعِلَاءِ { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا
} لِهَذَا الْحَدِيثِ .
[ ابْنُ حَابِسٍ وَابْنُ حِصْنٍ يَخْتَصِمَانِ فِي دَمِ ابْنِ
الْأَضْبَطِ إلَى الرّسُولِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ سَمِعْت زِيَادَ بْنَ ضُمَيْرةَ بْنِ سَعْدٍ
السّلَمِيّ يُحَدّثُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
وَكَانَا شَهِدَا حُنَيْنًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
صَلّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الظّهْرَ ثُمّ عَمِدَ
إلَى ظِلّ شَجَرَةٍ فَجَلَسَ تَحْتَهَا ، وَهُوَ بِحُنَيْنٍ فَقَامَ إلَيْهِ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ ،
يَخْتَصِمَانِ فِي عَامِرِ بْنِ أَضْبَطَ الْأَشْجَعِيّ عُيَيْنَةُ يَطْلُبُ
بِدَمِ عَامِرٍ وَهُوَ يَوْمئِذٍ رَئِيسُ غَطَفَانَ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
يَدْفَعُ عَنْ مُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ ، لِمَكَانِهِ مِنْ خندف ، فَتَدَاوَلَا الْخُصُومَةَ
عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ نَسْمَعُ
فَسَمِعْنَا عُيَيْنَةُ بْنَ حِصْنٍ وَهُوَ يَقُولُ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ
لَا أَدْعُهُ حَتّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنْ الْحُرْقَةِ مِثْلَ مَا أَذَاقَ
نِسَائِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ بَلْ
تَأْخُذُونَ الدّيَةَ خَمْسِينَ فِي سَفَرِنَا هَذَا ، وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا
، وَهُوَ يَأْبَى عَلَيْهِ إذْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ
مُكَيْثِرٌ قَصِيرٌ مَجْمُوعٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُكَيْتِلٌ - فَقَالَ
وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا وَجَدْت لِهَذَا الْقَتِيلِ شَبَهًا فِي غُرّةِ الْإِسْلَامِ
إلّا كَغَنَمٍ وَرَدَتْ فَرُمِيَتْ أُولَاهَا ، فَنَفَرَتْ أُخْرَاهَا ، اُسْنُنْ
الْيَوْمَ وَغَيّرْ غَدًا . قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَدَهُ . فَقَالَ بَلْ تَأْخُذُونَ الدّيَةَ خَمْسِينَ فِي سَفَرِنَا
هَذَا ، وَخَمْسِينَ إذَا رَجَعْنَا
. قَالَ فَقَبِلُوا الدّيَةَ . قَالَ ثُمّ قَالُوا :
أَيْنَ صَاحِبُكُمْ هَذَا ، يَسْتَغْفِرُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ آدَمُ ضَرْبٌ طَوِيلٌ عَلَيْهِ حُلّةٌ
لَهُ قَدْ كَانَ تَهَيّأَ لِلْقَتْلِ فِيهَا ، حَتّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ مَا اسْمُك ؟ قَالَ أَنَا
مُحَلّمُ بْنُ جَثّامَةَ ، قَالَ فَرَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَدَهُ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ لَا تَغْفِرْ لِمُحَلّمِ بْنِ جَثّامَةَ
ثَلَاثًا . قَالَ فَقَامَ وَهُوَ يَتَلَقّى دَمْعَهُ بِفَضْلِ رِدَائِهِ . قَالَ
فَأَمّا نَحْنُ فَنَقُولُ فِيمَا بَيْنَنَا : إنّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ اسْتَغْفَرَ لَهُ وَأَمّا مَا ظَهَرَ
مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَذَا [ ص 628 ]
[ مَوْتُ مُحَلّمٍ وَمَا حَدَثَ لَهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ
عَنْ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حِينَ جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَمّنْتَهُ بِاَللّهِ ثُمّ قَتَلْتَهُ ثُمّ
قَالَ لَهُ الْمَقَالَةَ الّتِي قَالَ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا مَكَثَ مُحَلّمُ بْنُ
جَثّامَةَ إلّا سَبْعًا حَتّى مَاتَ فَلَفَظَتْهُ وَاَلّذِي نَفْسُ الْحَسَنِ
بِيَدِهِ الْأَرْضُ ثُمّ عَادُوا لَهُ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمّ عَادُوا
فَلَفَظَتْهُ فَلَمّا غُلِبَ قَوْمُهُ عَمِدُوا إلَى صُدّيْنِ فَسَطَحُوهُ
بَيْنَهُمَا ، ثُمّ رَضَمُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ حَتّى وَارَوْهُ . قَالَ
فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَأْنُهُ فَقَالَ
وَاَللّهِ إنّ الْأَرْضَ لَتَطّابِقُ عَلَى مَنْ هُوَ شَرّ مِنْهُ وَلَكِنّ اللّهَ
أَرَادَ أَنْ يَعِظَكُمْ فِي حُرْمِ مَا بَيْنَكُمْ بِمَا أَرَاكُمْ مِنْهُ .
[ دِيَةُ ابْنِ الْأَضْبَطِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو
النّضْرِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَقَيْسًا حِينَ قَالَ
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَخَلَا بِهِمْ يَا مَعْشَرَ قَيْسٍ مَنَعْتُمْ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتِيلًا يَسْتَصْلِحُ بِهِ النّاسَ أَفَأَمِنْتُمْ
أَنْ يَلْعَنَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَلْعَنَكُمْ
اللّهُ بِلَعْنَتِهِ أَوْ أَنْ يَغْضَبَ عَلَيْكُمْ فَيَغْضَبَ اللّهُ عَلَيْكُمْ
بِغَضَبِهِ ؟ وَاَللّهِ الّذِي نَفْسُ الْأَقْرَعِ بِيَدِهِ لَتُسَلّمُنّهُ إلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَيَصْنَعَنّ فِيهِ مَا أَرَادَ
أَوْ لَآتِيَنّ بِخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يَشْهَدُونَ بِاَللّهِ كُلّهُمْ
لَقُتِلَ صَاحِبُكُمْ كَافِرًا ، مَا صَلّى قَطّ ، فَلَأَطُلّنّ دَمَهُ فَلَمّا
سَمِعُوا ذَلِكَ قَبِلُوا الدّيَةَ [ ص 629 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُحَلّمٌ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ كُلّهِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ مُحَلّمُ بْنُ
جَثّامَةَ بْنِ قَيْسٍ اللّيْثِيّ
. وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : مُلَجّمٌ فِيمَا حَدّثَنَاهُ
زِيَادٌ عَنْهُ .
غَزْوَةُ
ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ لِقَتْلِ رِفَاعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْجُشَمِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ
الْأَسْلَمِيّ الْغَابَةَ . وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا فِيمَا بَلَغَنِي ، عَمّنْ
لَا أَتّهِمُ عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ قَالَ تَزَوّجْت امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي ،
وَأَصْدَقْتهَا مِئَتَيْ دِرْهَمٍ قَالَ فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي ؛ فَقَالَ وَكَمْ أَصَدَقْت ؟
فَقُلْت : مِئَتَيْ دِرْهَمٍ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ لَوْ
كُنْتُمْ تَأْخُذُونَ الدّرَاهِمَ مِنْ بَطْنِ وَادٍ مَا زِدْتُمْ وَاَللّهِ مَا
عِنْدِي مَا أُعِينُك بِهِ قَالَ فَلَبِثْتُ أَيّامًا ، وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ
بَنِي جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، يُقَالُ لَهُ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ ، أَوْ
قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ ، فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي جُشَمَ حَتّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ
وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسَا عَلَى حَرْبِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ ذَا اسْمٍ فِي جُشَمَ وَشَرَفٍ .
قَالَ فَدَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجُلَيْنِ
مَعِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ اُخْرُجُوا إلَى هَذَا الرّجُلِ حَتّى تَأْتُوا
مِنْهُ بِخَبَرِ وَعِلْمٍ . قَالَ وَقَدّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ فَحُمِلَ عَلَيْهَا
أَحَدُنَا ، فَوَاَللّهِ مَا قَامَتْ [ ص 630 ] كَادَتْ ثُمّ قَالَ تُبَلّغُوا عَلَيْهَا
وَاعْتُقِبُوهَا .
[ انْتِصَارُ الْمُسْلِمِينَ وَنَصِيبُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ
مِنْ فَيْءٍ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى الزّوَاجِ ]
قَالَ فَخَرَجْنَا وَمَعَنَا سِلَاحُنَا مِنْ النّبْلِ
وَالسّيُوفِ حَتّى إذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنْ الْحَاضِرِ عُشَيْشِيّةً مَعَ
غُرُوبِ الشّمْسِ . قَالَ كَمَنْتُ فِي نَاحِيَةٍ وَأَمَرْت صَاحِبِيّ فَكَمَنَا
فِي نَاحِيَةٍ أُخْرَى مِنْ حَاضِرِ الْقَوْمِ وَقُلْت لَهُمَا : إذَا سَمِعْتُمَانِي
قَدْ كَبّرْت وَشَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ فَكَبّرَا وَشُدّا مَعِي .
قَالَ فَوَاَللّهِ إنّا لِكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ غِرّةَ الْقَوْمِ أَوْ أَنْ نُصِيبَ
مِنْهُمْ شَيْئًا . قَالَ وَقَدْ غَشِيَنَا اللّيْلُ حَتّى ذَهَبَتْ فَحْمَةُ
الْعِشَاءِ وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرّحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ
فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ حَتّى تُخَوّفُوا عَلَيْهِ . قَالَ فَقَامَ صَاحِبُهُمْ
ذَلِكَ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَجَعَلَهُ فِي عُنُقِهِ ثُمّ
قَالَ وَاَللّهِ لَأَتّبِعَنّ أَثَرَ رَاعِينَا هَذَا ، وَلَقَدْ أَصَابَهُ شَرّ ؛
فَقَالَ لَهُ نَفَرٌ مِمّنْ مَعَهُ وَاَللّهِ لَا تَذْهَبْ نَحْنُ نَكْفِيك ؛
قَالَ وَاَللّهِ لَا يَذْهَبُ إلّا أَنَا ؛ قَالُوا : فَنَحْنُ مَعَك ؛ قَالَ
وَاَللّهِ لَا يَتْبَعُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ . قَالَ وَخَرَجَ حَتّى يَمُرّ بِي .
قَالَ فَلَمّا أَمْكَنَنِي نَفْحَتُهُ بِسَهْمِي ، فَوَضَعْته فِي فُؤَادِهِ .
قَالَ فَوَاَللّهِ مَا تَكَلّمَ وَوَثَبْت إلَيْهِ فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ . قَالَ
وَشَدَدْت فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ وَكَبّرْت ، وَشَدّ صَاحِبَايَ وَكَبّرَا .
قَالَ فَوَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا النّجَاءُ مِمّنْ فِيهِ عِنْدَك ، عِنْدَك ، بِكُلّ
مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفّ مَعَهُمْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ . قَالَ وَاسْتَقْنَا إبِلًا عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً
فَجِئْنَا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ
وَجِئْت بِرَأْسِهِ [ ص 631 ] قَالَ فَأَعَانَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ بِثَلَاثَةَ عَشْرَ بَعِيرًا فِي
صَدَاقِي ، فَجَمَعْتُ إلَيّ أَهْلِي
.
غَزْوَةُ
عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، قَالَ سَمِعْت رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
يَسْأَلُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ عَنْ إرْسَالِ الْعِمَامَةِ
مِنْ خَلْفِ الرّجُلِ إذَا اعْتَمّ . قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ سَأُخْبِرُك إنْ
شَاءَ اللّهُ عَنْ ذَلِكَ بِعِلْمِ كُنْت عَاشِرَ عَشَرَةِ رَهْطٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَسْجِدِهِ أَبُو بَكْر ٍ
وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيّ ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَابْنُ
مَسْعُودٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، وَأَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إذْ أَقْبَلَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ جَلَسَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْك ، أَيّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا ؛
قَالَ فَأَيّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ ؟ قَالَ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا لِلْمَوْتِ وَأَحْسَنُهُمْ
اسْتِعْدَادًا لَهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ أُولَئِكَ الْأَكْيَاسُ . ثُمّ
سَكَتَ الْفَتَى ، وَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ إذَا
نَزَلْنَ بِكُمْ وَأَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنّ إنّهُ لَمْ تَظْهَرْ
الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ حَتّى يُعْلِنُوا بِهَا إلّا ظَهَرَ فِيهِمْ
الطّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمْ الّذِينَ مَضَوْا
؛ وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلّا أُخِذُوا بِالسّنِينَ وَشِدّةِ
الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السّلْطَانِ وَلَمْ يَمْنَعُوا الزّكَاةَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
إلّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السّمَاءِ فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ مَا مُطِرُوا ؛
وَمَا نَقَضُوا عَهْدَ اللّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إلّا سُلّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوّ
مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذَ بَعْضَ مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَا لَمْ يَحْكُمْ
أَئِمّتُهُمْ بِكِتَابِ اللّهِ وَتَجَبّرُوا فِيمَا أَنَزَلَ اللّهُ إلّا جَعَلَ
اللّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ
[ تَأْمِيرُ ابْنِ عَوْفٍ وَاعْتِمَامُهُ ]
[ ص 632 ] أَمَرَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أَنْ
يَتَجَهّزَ لِسَرِيّةِ بَعَثَهُ عَلَيْهَا ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ اعْتَمّ
بِعِمَامَةِ مِنْ كَرَابِيسَ سَوْدَاءَ فَأَدْنَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُ ثُمّ نَقَضَهَا ، ثُمّ عَمّمَهُ بِهَا ، وَأَرْسَلَ مِنْ
خَلْفِهِ أَرْبَعَ أَصَابِعَ أَوْ نَحْوًا مِنْ ذَلِكَ ثُمّ قَالَ هَكَذَا يَا
ابْنَ عَوْفٍ فَاعْتَمّ ، فَإِنّهُ أَحْسَنُ وَأَعْرَفُ ثُمّ أَمَرَ بَلَالًا أَنْ
يَدْفَعَ إلَيْهِ اللّوَاءَ . فَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَحَمِدَ اللّهَ تَعَالَى ،
وَصَلّى عَلَى نَفْسِهِ ثُمّ قَالَ خُذْهُ يَا بْنَ عَوْفٍ اُغْزُوَا جَمِيعًا فِي
سَبِيلِ اللّهِ فَقَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللّهِ لَا تَغُلّوا ، وَلَا
تَغْدِرُوا ، وَلَا تُمَثّلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا ، فَهَذَا عَهْدُ
اللّهِ وَسِيرَةُ نَبِيّهِ فِيكُمْ .
فَأَخَذَ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ اللّوَاءَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَخَرَجَ إلَى دَوْمَةِ الْجَنْدَلِ .
غَزْوَةُ
أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ إلَى سَيْفِ الْبَحْر
[ نَفَادُ الطّعَامِ وَخَبَرُ دَابّةِ الْبَحْرِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ عِبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عُبَادَةَ
بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سَرِيّةً إلَى سِيفِ الْبَحْرِ ، عَلَيْهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَزَوّدَهُمْ
جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ فَجَعَلَ يَقُوتُهُمْ إيّاهُ حَتّى صَارَ إلَى أَنْ يَعُدّهُ
عَلَيْهِمْ عَدَدًا . قَالَ ثُمّ نَفِدَ التّمْرُ حَتّى كَانَ يُعْطَى كُلّ رَجُلٍ
مِنْهُمْ كُلّ يَوْمٍ تَمْرَةً .
قَالَ فَقَسَمَهَا يَوْمًا بَيْنَنَا . قَالَ فَنَقَصَتْ
تَمْرَةٌ عَنْ رَجُلٍ فَوَجَدْنَا فَقَدَهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ . قَالَ فَلَمّا
جَهَدَنَا الْجُوعُ أَخَرَجَ اللّهُ لَنَا دَابّةً مِنْ الْبَحْرِ فَأَصَبْنَا
مِنْ لَحْمِهَا وَوَدَكِهَا ، وَأَقَمْنَا عَلَيْهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً حَتّى سَمّنَا
وَابْتَلَلْنَا ، وَأَخَذَ أَمِيرُنَا ضِلَعًا مِنْ أَضْلَاعِهَا ، فَوَضَعَهَا
عَلَى طَرِيقِهِ ثُمّ أَمَرَ بِأَجْسَمِ بَعِيرٍ مَعَنَا ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ
أَجْسَمَ رَجُلٍ مِنّا . قَالَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ قَالَ فَخَرَجَ مِنْ تَحْتِهَا
وَمَا مَسّتْ رَأْسُهُ . قَالَ فَلَمّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرْنَاهُ خَبَرَهَا ، وَسَأَلْنَاهُ عَمّا
صَنَعْنَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَكْلِنَا إيّاهُ فَقَالَ رِزْقٌ رَزَقَكُمُوهُ اللّهُ
[ ص 633 ]
بَعْثُ
عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ لِقِتَالِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَمَا
صَنَعَ فِي طَرِيقِهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ
إسْحَاقَ مِنْ بُعُوثِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَسَرَايَاهُ بَعْثُ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
بَعْدَ مَقْتَلِ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيّ وَأَصْحَابِهِ إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَهُ
أَنْ يَقْتُلَ أَبَا سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ
الْأَنْصَارِيّ فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا مَكّةَ ، وَحَبَسَا جَمَلَيْهِمَا
بِشِعْبٍ مِنْ شِعَابِ يَأْجَجَ ، ثُمّ دَخَلَا مَكّةَ لَيْلًا ؛ فَقَالَ جَبّارٌ
لِعَمْرِو : لَوْ أَنّا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَصَلّيْنَا رَكْعَتَيْنِ ؟ فَقَالَ
عَمْرٌو : إنّ الْقَوْمَ إذَا تَعَشّوْا جَلَسُوا بِأَفْنِيَتِهِمْ فَقَالَ كَلّا
، إنْ شَاءَ اللّهُ فَقَالَ عَمْرٌو : فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَصَلّيْنَا ، ثُمّ خَرَجْنَا
نُرِيدُ أَبَا سُفْيَانَ فَوَاَللّهِ إنّا لَنَمْشِي بِمَكّةَ إذْ نَظَرَ إلَيّ
رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَعَرَفَنِي ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ وَاَللّهِ
إنْ قَدِمَهَا إلّا لِشَرّ فَقُلْت لِصَاحِبِي : النّجَاءُ فَخَرَجْنَا نَشْتَدّ ،
حَتّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ وَخَرَجُوا فِي طَلَبِنَا ، حَتّى إذَا عَلَوْنَا
الْجَبَلَ يَئِسُوا مِنّا ، فَرَجَعْنَا ، فَدَخَلْنَا كَهْفًا فِي الْجَبَلِ فَبِتْنَا
فِيهِ وَقَدْ أَخَذْنَا حِجَارَةً فَرَضَمْنَاهَا دُونَنَا ؛ فَلَمّا أَصْبَحْنَا
غَدًا رَجُلٌ مِنْ [ ص 634 ] قُرَيْشٍ يَقُودُ فَرَسًا لَهُ وَيَخْلِي عَلَيْهَا ،
فَغَشِيَنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ فَقُلْت : إنْ رَآنَا صَاحَ بِنَا ،
فَأُخِذْنَا فَقُتِلْنَا . قَالَ وَمَعِي خِنْجَرٌ قَدْ أَعْدَدْته لِأَبِي
سُفْيَانَ فَأَخْرُجُ إلَيْهِ فَأَضْرِبُهُ عَلَى ثَدْيِهِ ضَرْبَةً وَصَاحَ
صَيْحَةً أَسْمَعَ أَهْلَ مَكّةَ ، وَأَرْجِعُ فَأَدْخُلُ مَكَانِي ، وَجَاءَهُ
النّاسُ يَشْتَدّونَ وَهُوَ بِآخِرِ رَمَقٍ فَقَالُوا : مَنْ ضَرَبَك ؟ فَقَالَ
عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ وَغَلَبَهُ الْمَوْتُ فَمَاتَ مَكَانَهُ وَلَمْ يَدْلُلْ
عَلَى مَكَانِنَا ، فَاحْتَمَلُوهُ . فَقُلْت لِصَاحِبِي ، لَمّا أَمْسَيْنَا : النّجَاءُ
فَخَرَجْنَا لَيْلًا مِنْ مَكّةَ نُرِيدُ الْمَدِينَةَ ، فَمَرَرْنَا بِالْحَرَسِ
وَهُمْ يَحْرَسُونَ جِيفَةَ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيّ ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ وَاَللّهِ
مَا رَأَيْت كَاللّيْلَةِ أَشَبَهَ بِمِشْيَةِ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ ، لَوْلَا
أَنّهُ بِالْمَدِينَةِ لَقُلْت هُوَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ قَالَ فَلَمّا حَاذَى
الْخَشَبَةَ شَدّ عَلَيْهَا ، فَأَخَذَهَا فَاحْتَمَلَهَا ، وَخَرَجَا شَدّا ، وَخَرَجُوا
وَرَاءَهُ حَتّى أَتَى جُرْفًا بِمَهْبِطِ مَسِيلِ يَأْجَجَ ، فَرَمَى بِالْخَشَبَةِ
فِي الْجُرْفِ ، فَغَيّبَهُ اللّهُ عَنْهُمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ قَالَ
وَقُلْت لِصَاحِبِي : النّجَاءَ النّجَاءَ حَتّى تَأْتِيَ بَعِيرَك فَتَقْعُدَ
عَلَيْهِ فَإِنّي سَأَشْغَلُ عَنْك الْقَوْمَ وَكَانَ الْأَنْصَارِيّ لَا رُجْلَةَ
لَهُ . قَالَ وَمَضَيْتُ حَتّى أَخْرُجَ عَلَى ضَجْنَانَ ، ثُمّ أَوَيْت إلَى
جَبَلِ فَأَدْخُلُ كَهْفًا ، فَبَيْنَا أَنَا فِيهِ إذْ دَخَلَ عَلَيّ شَيْخٌ مِنْ
بَنِي الدّيلِ أَعْوَرُ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ فَقُلْت : مِنْ بَنِي
بَكْرٍ فَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ فَقُلْت : مَرْحَبًا ، فَاضْطَجَعَ ثُمّ رَفَعَ
عَقِيرَتَهُ فَقَالَ
وَلَسْتُ بِمُسْلِمٍ مَا دُمْتُ حَيّا ... وَلَا دَانٍ
لِدِينِ الْمُسْلِمِينَا
فَقُلْت فِي نَفْسِي : سَتَعْلَمُ فَأَمْهَلْته ، حَتّى
إذَا نَامَ أَخَذْتُ قَوْسِي ، فَجَعَلْت سِيَتَهَا [ ص 635 ] الْعَرْجَ ، ثُمّ
سَلَكْت رَكُوبَةً ، حَتّى إذَا هَبَطْت النّقِيعَ إذَا رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ كَانَتْ قُرَيْشٌ بَعَثَتْهُمَا عَيْنًا إلَى الْمَدِينَةِ
يَنْظُرَانِ وَيَتَحَسّسَانِ فَقُلْت اسْتَأْسِرَا ، فَأَبَيَا ، فَأَرْمِي
أَحَدَهُمَا بِسَهْمِ فَأَقْتُلُهُ وَاسْتَأْسَرَ الْآخَرُ فَأُوَثّقُهُ رِبَاطًا
، وَقَدِمْت بِهِ الْمَدِينَةَ
.
سَرِيّةُ زَيْدِ
بْنِ حَارِثَةَ إلَى مَدْيَنَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَرِيّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ
إلَى مَدْيَن َ . ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ عَنْ
أُمّهِ فَاطِمَةَ ابْنَةِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمْ رِضْوَانُ اللّهِ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ
نَحْوَ مَدْيَنَ ، وَمَعَهُ ضُمَيْرةَ مَوْلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَخٌ لَهُ . قَالَتْ فَأَصَابَ سَبْيًا مِنْ أَهْلِ
مِينَاءَ ، وَهِيَ السّوَاحِلُ وَفِيهَا جُمّاعٌ مِنْ النّاسِ فَبِيعُوا ،
فَفُرّقَ بَيْنَهُمْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ
يَبْكُونَ فَقَالَ مَا لَهُمْ ؟ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ فُرّقَ بَيْنَهُمْ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَبِيعُوهُمْ إلّا
جَمِيعًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَرَادَ الْأُمّهَاتَ وَالْأَوْلَادَ .
سَرِيّةُ
سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ لِقَتْلِ أَبِي عَفَكٍ
[ سَبَبُ نِفَاقِ أَبِي عَفَكٍ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَغَزْوَةُ سَالِمِ بْنِ
عُمَيْرٍ لِقَتْلِ أَبِي عَفَكٍ أَحَدُ [ ص 636 ] بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ ثُمّ
مِنْ بَنِي عُبَيْدَةَ وَكَانَ قَدْ نَجَمَ نِفَاقُهُ حِينَ قَتَلَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد بْنِ صَامِتٍ ، فَقَالَ
لَقَدْ عِشْتُ دَهْرًا وَمَا إنْ أَرَى ... مِنْ النّاسِ
دَارًا وَلَا مَجْمَعَا
أَبَرّ عُهُودًا وَأَوْفَى لِمَنْ ... يُعَاقَدُ فِيهِمْ
إذَا مَا دَعَا
مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ فِي جَمْعِهِمْ ... يَهُدّ
الْجِبَالَ وَلَمْ يَخْضَعَا
فَصَدّعَهُمْ رَاكِبٌ جَاءَهُمْ ... حَلَالٌ حَرَامٌ
لِشَتّى مَعَا
فَلَوْ أَنّ بِالْعِزّ صَدّقْتُمْ ... أَوْ الْمُلْكِ
تَابَعْتُمْ تُبّعَا
[ قَتْلُ ابْنِ عُمَيْرٍ لَهُ وَشِعْرُ الْمُزَيْرِيّة ]
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَنْ لِي بِهَذَا الْخَبِيثِ ، فَخَرَجَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ ، أَخُو بَنِي
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ أَحَدُ الْبَكّائِينَ فَقَتَلَهُ ؟ فَقَالَتْ
أُمَامَةُ الْمُزَيْرِيّة فِي ذَلِكَ
تُكَذّبُ دِينَ اللّهِ وَالْمَرْءَ أَحْمَدَا ...
لَعَمْرُ الّذِي أَمْنَاكَ أَنْ بِئْسَ مَا يُمْنِي
حَبَاكَ حَنِيفٌ آخِرَ اللّيْلِ طَعْنَةً ... أَبَا
عَفَكٍ خُذْهَا عَلَى كِبَرِ السّنّ
غَزْوَةُ
عُمَيْرِ بْنِ عَدِيّ الْخِطْمِيّ لِقَتْلِ عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ
وَغَزْوَةُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيّ الْخِطْمِيّ عَصْمَاءَ
بِنْتَ مَرْوَانَ ، وَهِيَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ فَلَمّا قُتِلَ أَبُو
عَفَكٍ نَافَقَتْ فَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفُضَيْلِ [ ص
637 ] أَبِيهِ قَالَ وَكَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ وَيُقَالُ لَهُ
يَزِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَتْ تَعِيبُ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ
بِاسْتِ بَنِي مَالِكٍ وَالنّبِيتِ ... وَعَوْفٍ
وَبِاسْتِ بَنِي الْخَزْرَجِ
أَطَعْتُمْ أَتَاوِيّ مِنْ غَيْرِكُمْ ... فَلَا مِنْ
مُرَادٍ وَلَا مَذْحِجِ
تَرْجُونَهُ بَعْدَ قَتْلِ الرّءُوسِ ... كَمَا
يُرْتَجَى مَرَقُ الْمُنْضَجِ
أَلَا أَنِفٌ يَبْتَغِيَ غِرّةُ ... فَيَقْطَع مِنْ
أَمَلِ الْمُرْتَجِي
[ شِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَيْهَا ]
قَالَ فَأَجَابَهَا حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَقَالَ
بَنُو وَائِلٍ وَبَنُو وَاقِفٍ ... وَخَطْمَةُ دُونَ
بَنِي الْخَزْرَجِ
مَتَى مَا دَعَتْ سَفَهًا وَيْحَهَا ... بِعَوْلَتِهَا
وَالْمَنَايَا تَجِي
فَهَزّتْ فَتًى مَاجِدًا عِرْقُهُ ... كَرِيمُ
الْمَدَاخِلِ وَالْمَخْرَجِ
فَضَرّجَهَا مِنْ نَجِيعِ الدّمَا ... ء بَعْدَ
الْهُدُوّ فَلَمْ يَحْرَجْ
[ خُرُوجُ الْخِطْمِيّ لَقَتْلِهَا ]
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ أَلَا آخِذٌ لِي مِنْ ابْنَةِ مَرْوَانَ ؟ فَسَمِعَ ذَلِكَ
مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ الْخِطْمِيّ
، وَهُوَ عِنْدَهُ فَلَمّا أَمْسَى مِنْ تِلْكَ اللّيْلَةِ سَرَى عَلَيْهَا فِي
بَيْتِهَا فَقَتَلَهَا ، ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ قَتَلْتهَا . فَقَالَ نَصَرْت
اللّهَ وَرَسُولَهُ يَا عُمَيْرُ ، فَقَالَ هَلْ عَلَيّ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِهَا يَا
رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ
[ شَأْنُ بَنِي خَطْمَةَ ]
[ ص 638
] خَطْمَةَ يَوْمئِذٍ كَثِيرٌ مَوْجُهُمْ فِي شَأْنِ
بِنْتِ مَرْوَانَ وَلَهَا يَوْمئِذٍ بَنُونَ خَمْسَةُ رِجَالٍ فَلَمّا جَاءَهُمْ
عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ
يَا بَنِي خَطْمَةَ أَنَا قَتَلْت ابْنَةَ مَرْوَانَ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمّ
لَا تُنْظِرُونَ . فَذَلِكَ الْيَوْمُ أَوّلُ مَا عَزّ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ
بَنِي خَطْمَةَ وَكَانَ يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِمْ فِيهِمْ مَنْ أَسْلَمَ ،
وَكَانَ أَوّلَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ وَهُوَ
الّذِي يُدْعَى الْقَارِئَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَوْسٍ ، وَخُزَيْمَة بْنِ
ثَابِتٍ ، وَأَسْلَمَ ، يَوْمَ قُتِلَتْ ابْنَةُ مَرْوَانَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي خَطْمَةَ
لَمّا رَأَوْا مِنْ عِزّ الْإِسْلَامِ
.
أَسْرُ
ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ وَإِسْلَامُهُ
وَالسّرِيّةُ الّتِي أَسَرَتْ ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ
الْحَنَفِيّ
بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِي
هَرِيرَةَ أَنّهُ قَالَ خَرَجَتْ خَيْلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَأَخَذَتْ رَجُلًا مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ، لَا يَشْعُرُونَ مَنْ هُوَ حَتّى
أَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَتَدْرُونَ
مَنْ أَخَذْتُمْ ؛ هَذَا ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ ، أُحْسِنُوا
إسَارَهُ وَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِهِ
فَقَالَ اجْمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ فَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِ
وَأَمَرَ بِلِقْحَتِهِ أَنْ يُغْدَى عَلَيْهِ بِهَا وَيُرَاحُ فَجَعَلَ لَا يَقَعُ
مِنْ ثُمَامَةَ مَوْقِعًا وَيَأْتِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَيَقُولُ أَسْلِمْ يَا ثُمَامَةُ فَيَقُولُ إيْهَا يَا مُحَمّدُ إنْ تَقْتُلْ
تَقْتُلْ ذَا دَمٍ وَإِنْ تُرِدْ الْفِدَاءَ فَسَلْ مَا شِئْت ، فَمَكَثَ مَا
شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَوْمًا : أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَلَمّا أَطْلَقُوهُ خَرَجَ حَتّى أَتَى
الْبَقِيعَ ، فَتَطَهّرَ فَأَحْسَنَ طُهُورَهُ ثُمّ [ ص 639 ] أَقْبَلَ فَبَايَعَ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَمّا أَمْسَى
جَاءُوهُ بِمَا كَانُوا يَأْتُونَهُ مِنْ الطّعَامِ فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُ إلّا
قَلِيلًا ، وَبِاللّقْحَةِ فَلَمْ يُصِبْ مِنْ حِلَابِهَا إلّا يَسِيرًا فَعَجِبَ الْمُسْلِمُونَ
مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
بَلَغَهُ ذَلِكَ مِمّ تَعْجَبُونَ ؟ أَمِنْ رَجُلٍ أَكَلَ أَوّلَ النّهَارِ فِي
مِعَى كَافِرٍ وَأَكَلَ آخِرَ النّهَارِ فِي مِعَى مُسْلِمٍ إنّ الْكَافِرَ
يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَإِنّ الْمُسْلِمَ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ
[ خُرُوجُهُ إلَى مَكّةَ وَقِصّتُهُ مَعَ قُرَيْشٍ ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي أَنّهُ خَرَجَ
مُعْتَمِرًا ، حَتّى إذَا كَانَ بِبَطْنِ مَكّةَ لَبّى ، فَكَانَ أَوّلَ مَنْ
دَخَلَ مَكّةَ يُلَبّي ، فَأَخَذَتْهُ قُرَيْشٌ ، فَقَالُوا : لَقَدْ اخْتَرْت
عَلَيْنَا ، فَلَمّا قَدّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ
دَعُوهُ فَإِنّكُمْ تَحْتَاجُونَ إلَى الْيَمَامَةِ لِطَعَامِكُمْ فَخَلّوهُ فَقَالَ
الْحَنَفِيّ فِي ذَلِكَ وَمِنّا الّذِي لَبّى بِمَكّةَ مُعْلِنًا بِرَغْمِ أَبِي
سُفْيَانَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمْ وَحُدّثْت أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسْلَمَ ، لَقَدْ كَانَ وَجْهُك أَبْغَضَ
الْوُجُوهِ إلَيّ وَلَقَدْ أَصْبَحَ وَهُوَ أَحَبّ الْوُجُوهِ إلَيّ . وَقَالَ فِي
الدّينِ وَالْبِلَادِ مِثْلَ ذَلِكَ . ثُمّ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، فَلَمّا قَدِمَ
مَكّةَ ، قَالُوا : أَصَبَوْت يَا ثُمَامُ ؟ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنّي اتّبَعْت
خَيْرَ الدّينِ دِينَ مُحَمّدٍ وَلَا وَاَللّهِ لَا تَصِلُ إلَيْكُمْ حَبّةٌ مِنْ الْيَمَامَةِ
حَتّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ
خَرَجَ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَمَنَعَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَى مَكّةَ شَيْئًا ،
فَكَتَبُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك تَأْمُرُ
بِصِلَةِ الرّحِمِ وَإِنّك قَدْ قَطَعْت أَرْحَامَنَا ، وَقَدْ قَتَلْت الْآبَاءَ
بِالسّيْفِ وَالْأَبْنَاءَ بِالْجَوْعِ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ أَنْ يُخَلّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَمْلِ .
سَرِيّةُ
عَلْقَمَةَ بْنِ مُجَزّزٍ
وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ . [ ص 640 ] مُجَزّزٍ الْمُدْلِجِيّ يَوْمَ ذِي قَرَدَ سَأَلَ
عَلْقَمَةُ بْنُ مُجَزّزٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْعَثَهُ
فِي آثَارِ الْقَوْمِ لِيَدْرِكَ ثَأْرَهُ فِيهِمْ .
[ دُعَابَةُ ابْنِ حُذَافَةَ مَعَ جَيْشِهِ ]
فَذَكَرَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ مُحَمّدِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ ،
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ - قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ : وَأَنَا فِيهِمْ
- حَتّى إذَا بَلَغْنَا رَأَسَ غَزَاتِنَا أَوْ كُنّا بِبَعْضِ الطّرِيقِ أَذِنَ
لِطَائِفَةِ مِنْ الْجَيْشِ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ ابْنَ
حُذَافَةَ السّهْمِيّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ فَلَمّا كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ
أَوْقَدَ نَارًا ، ثُمّ قَالَ لِلْقَوْمِ أَلَيْسَ لِي عَلَيْكُمْ السّمْعُ
وَالطّاعَةُ ؟ قَالُوا : بَلَى ؛ قَالَ أَفَمَا أَنَا آمُرُكُمْ بِشَيْءِ إلّا
فَعَلْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَإِنّي أَعْزِمُ عَلَيْكُمْ بِحَقّي
وَطَاعَتِي إلّا تَوَاثَبْتُمْ فِي هَذِهِ النّارِ قَالَ فَقَامَ بَعْضُ الْقَوْمِ
يَحْتَجِزُ حَتّى ظَنّ أَنّهُمْ وَاثِبُونَ فِيهَا ، فَقَالَ لَهُمْ اجْلِسُوا ،
فَإِنّمَا كُنْت أَضْحَكُ مَعَكُمْ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ أَنْ قَدِمُوا عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ أَمَرَكُمْ بِمَعْصِيَةٍ مِنْهُمْ فَلَا تُطِيعُوهُ .
وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ طَلْحَةَ أَنّ عَلْقَمَةَ بْنَ مُجَزّزٍ رَجَعَ هُوَ
وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يَلْقَ كَيْدًا
.
سَرِيّةُ
كُرْزِ بْنِ جَابِرٍ لِقَتْلِ الْبَجَلِيّينَ الّذِينَ قَتَلُوا يَسَارًا
حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ
مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، قَالَ أَصَابَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ مُحَارَبٍ وَبَنِيّ ثَعْلَبَةَ
عَبْدًا يُقَالُ لَهُ يَسَارٌ فَجَعَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي لِقَاحٍ لَهُ كَانَتْ تَرْعَى [ ص 641 ] نَاحِيَةِ الْجَمّاءِ ، فَقَدِمَ
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ قَيْسٍ كُبّة
مِنْ بَجِيلَةَ ، فَاسْتَوْبَئُوا ، وَطَحِلُوا ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى اللّقَاحِ فَشَرِبْتُمْ مِنْ
أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا ، فَخَرَجُوا إلَيْهَا .
[ قَتْلُ الْبَجَلِيّينَ وَتَنْكِيلُ الرّسُولِ بِهِمْ ]
فَلَمّا صَحّوا وَانْطَوَتْ بُطُونُهُمْ عَدَوْا عَلَى
رَاعِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسَارٍ فَذَبَحُوهُ
وَغَرَزُوا الشّوْكَ فِي عَيْنَيْهِ وَاسْتَلْقَوْا اللّقَاحَ . فَبَعَثَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِهِمْ كُرْزَ بْنَ جَابِرٍ ، فَلَحِقَهُمْ
فَأَتَى بِهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْجِعه مِنْ
غَزْوَةِ ذِي قَرَدَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ .
غَزْوَةُ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْيَمَنِ
وَغَزْوَةُ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ
عَلَيْهِ إلَى الْيَمَنِ ، غَزَاهَا مَرّتَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ
أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ : بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلِيّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ إلَى الْيَمَنِ ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ
فِي جُنْدٍ آخَرَ وَقَالَ إنْ الْتَقَيْتُمَا فَالْأَمِيرُ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِب وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ بَعْثَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ فِي
حَدِيثِهِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي عِدّةِ الْبُعُوثِ وَالسّرَايَا ، فَيَنْبَغِي
أَنْ تَكُونَ الْعِدّةُ فِي قَوْلِهِ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ .
بَعْثُ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ
وَهُوَ آخِرُ الْبُعُوثِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ [ ص 642 ] الشّامِ
، وَأَمَرَهُ أَنّ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدّارُومِ ، مِنْ
أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، فَتَجَهّزَ النّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ الْمُهَاجِرُونَ
الْأَوّلُونَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ آخِرُ بَعْثٍ بَعَثَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
.
ابْتِدَاءُ
شَكْوَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ
اُبْتُدِئَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَكْوِهِ الّذِي
قَبَضَهُ اللّهُ فِيهِ إلَى مَا أَرَادَ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي
لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ صَفَرٍ أَوْ فِي أَوّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ فَكَانَ أَوّلُ
مَا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا ذُكِرَ لِي ، أَنّهُ خَرَجَ إلَى بَقِيعِ
الْغَرْقَدِ ، مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ ثُمّ رَجَعَ إلَى
أَهْلِهِ فَلَمّا أَصْبَحَ اُبْتُدِئَ بِوَجَعِهِ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ
جُبَيْرٍ مَوْلَى الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ ، عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إنّي قَدْ أُمِرْت أَنْ أَسْتَغْفِرَ
لِأَهْلِ هَذَا الْبَقِيعِ ، فَانْطَلِقْ مَعِي ، فَانْطَلَقْت مَعَهُ فَلَمّا
وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ السّلَامُ عَلَيْكُمْ يَأْهَلَ الْمَقَابِرِ
لِيَهْنِئَ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمّا أَصْبَحَ النّاسُ فِيهِ
أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ آخِرُهَا أَوّلَهَا
، الْآخِرَةُ شَرّ مِنْ الْأُولَى ، ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيّ فَقَالَ يَا أَبَا
مُوَيْهِبَةَ إنّي قَدْ أُوتِيت مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدّنْيَا وَالْخُلْدَ
فِيهَا ، ثُمّ الْجَنّةُ فَخُيّرْت بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبّي
وَالْجَنّةِ . قَالَ فَقُلْت : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، فَخُذْ مَفَاتِيحَ
خَزَائِنِ الدّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ، ثُمّ الْجَنّةَ ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ
يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ لَقَدْ اخْتَرْت لِقَاءَ رَبّي وَالْجَنّةَ ثُمّ أَسَتَغْفِرُ
لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ، ثُمّ أَنْصَرِف فَبَدَأَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعُهُ الّذِي قَبَضَهُ اللّهُ فِيهِ .
[ تَمْرِيضُهُ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
عُتْبَةَ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ [ ص 643 ] عُبَيْدِ
اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْبَقِيعِ ، فَوَجَدَنِي وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي
رَأْسِي ، وَأَنَا أَقُولُ وَارْأَسَاهُ ، فَقَالَ بَلْ أَنَا وَاَللّهِ يَا
عَائِشَةُ وَارْأَسَاهُ . قَالَتْ ثُمّ قَالَ وَمَا ضَرّكِ لَوْ مُتّ قَبْلِي ،
فَقُمْتُ عَلَيْك وَكَفّنْتُك ، وَصَلّيْت عَلَيْك وَدَفَنْتُك ؟ قَالَتْ قُلْت :
وَاَللّهِ لَكَأَنّي بِك ، لَوْ قَدْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إلَى
بَيْتِي ، فَأَعْرَسْت فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِك ، قَالَتْ فَتَبَسّمَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَتَامّ بِهِ وَجَعُهُ وَهُوَ يَدُورُ
عَلَى نِسَائِهِ حَتّى اسْتَعَزّ بِهِ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ فَدَعَا نِسَاءَهُ
فَاسْتَأْذَنَهُنّ فِي أَنْ يُمَرّضَ فِي بَيْتِي ، فَأَذِنّ لَه
ذِكْرُ
أَزْوَاجِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكُنّ تِسْعًا : عَائِشَةُ
بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، وَأُمّ
حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ ، وَأُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ بْنِ قَيْسٍ ،
وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ
حَزْنٍ ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، وَصَفِيّةُ بِنْتُ
حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ فِيمَا حَدّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
[ زَوَاجُهُ بِخَدِيجَةَ ]
وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ تَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ
أَوّلُ مَنْ تَزَوّجَ زَوّجَهُ إيّاهَا أَبُوهَا خُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ ،
وَيُقَالُ أَخُوهَا عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ ، وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِشْرِينَ بَكْرَةً فَوَلَدَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلّا إبْرَاهِيمَ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ
أَبِي هَالَةَ بْنِ مَالِكٍ أَحَدِ بَنِي أُسَيّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ
حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَوَلَدَتْ لَهُ هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ
وَزَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي هَالَةَ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي هَالَةَ عِنْدَ [ ص 644 ]
عُتَيّقِ بْنِ عَابِدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللّهِ وَجَارِيَةً . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جَارِيَةٌ مِنْ
الْجَوَارِي ، تَزَوّجَهَا صَيْفِيّ بْنُ أَبِي رِفَاعَةَ .
[ زَوَاجُهُ بِعَائِشَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ بِمَكّةَ ، وَهِيَ بِنْتُ
سَبْعِ سِنِينَ وَبَنَى بِهَا بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ أَوْ
عَشْرٍ وَلَمْ يَتَزَوّجْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِكْرًا غَيْرَهَا
، زَوّجَهُ إيّاهَا أَبُوهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ .
[ زَوَاجُهُ بِسَوْدَةِ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمَعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، زَوّجَهُ
إيّاهَا سَلِيطُ بْنُ عَمْرٍو ، وَيُقَال أَبُو حَاطِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : ابْنُ إسْحَاقَ يُخَالِفُ هَذَا الْحَدِيثَ يَذْكُرُ أَنّ سَلِيطًا
وَأَبَا حَاطِبٍ كَانَا غَائِبَيْنِ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ .
وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ السّكْرَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ .
[ زَوَاجُهُ بِزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسْدِيَةَ زَوّجَهُ إيّاهَا
أَخُوهَا أَبُو أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ ، وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ زَيْدِ
بْنِ حَارِثَةَ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفِيهَا
أَنَزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا
زَوّجْنَاكَهَا }
[ زَوَاجُهُ بِأُمّ سَلَمَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّةَ
، وَاسْمُهَا هِنْدُ ؛ زَوّجَهُ إيّاهَا سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ابْنُهَا ،
وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ [ ص 645 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِرَاشًا حَشْوُهُ
لِيفٌ وَقَدَحًا ، وَصَحْفَةً وَمِجَشّةً وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ
سَلَمَةَ وَعُمَرَ وَزَيْنَبَ وَرُقَيّةَ .
[ زَوَاجُهُ بِحَفْصَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، زَوّجَهُ إيّاهَا أَبُوهَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ خُنَيْسِ بْنِ
حُذَافَةَ السّهْمِيّ .
[ زَوَاجُهُ بِأُمّ حَبِيبَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أُمّ حَبِيبَةَ ، وَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ ، زَوّجَهُ إيّاهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، وَهُمَا بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، وَأَصْدَقَهَا النّجَاشِيّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِينَارٍ ، وَهُوَ الّذِي كَانَ خَطَبَهَا
عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ عُبَيْدِ
اللّهِ بْنِ جَحْشٍ الْأَسَدِيّ
.
[ زَوَاجُهُ بِجُوَيْرِيَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيّة ،
كَانَتْ فِي سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَوَقَعَتْ فِي
السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ الْأَنْصَارِيّ ، فَكَاتَبَهَا
عَلَى نَفْسِهَا ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتَعِينُهُ
فِي كِتَابَتِهَا . فَقَالَ لَهَا : هَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكِ ؟ قَالَتْ
وَمَا هُوَ ؟ قَالَ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ
فَتَزَوّجَهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: حَدّثَنَا بِهَذَا الْحَدِيثِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرِ
بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال :
لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ غَزْوَةِ
بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَمَعَهُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، فَكَانَ بِذَاتِ
الْجَيْشِ دَفَعَ جُوَيْرِيَةَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَدِيعَةً وَأَمَرَهُ
بِالِاحْتِفَاظِ بِهَا ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
الْمَدِينَةَ ، فَأَقْبَلَ أَبُوهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ بِفِدَاءِ
ابْنَتِهِ فَلَمّا كَانَ بِالْعَقِيقِ [ ص 646 ] نَظَرَ إلَى الْإِبِلِ الّتِي
جَاءَ بِهَا لِلْفِدَاءِ فَرَغِبَ فِي بَعِيرَيْنِ مِنْهَا ، فَغَيّبَهُمَا فِي شِعْبٍ
مِنْ شِعَابِ الْعَقِيقِ ، ثُمّ أَتَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَصَبْتُمْ ابْنَتِي ، وَهَذَا فِدَاؤُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَيْنَ الْبَعِيرَانِ اللّذَانِ غَيّبْت
بِالْعَقِيقِ فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ أَشْهَدُ أَنّ لَا
إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَوَاَللّهِ
مَا اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ إلّا اللّهُ تَعَالَى فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ ،
وَأَسْلَمَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرْسَلَ إلَى الْبَعِيرَيْنِ
فَجَاءَ بِهِمَا ، فَدَفَعَ الْإِبِلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ ابْنَتُهُ جُوَيَرِيَةُ ، فَأَسْلَمَتْ وَحَسُنَ
إسْلَامُهَا ، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
أَبِيهَا ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ
وَكَانَتْ قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ابْنِ
عَمّ لَهَا يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
اشْتَرَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ ثَابِتِ بْنِ
قَيْسٍ ، فَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ .
[ زَوَاجُهُ بِصَفِيّةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، سَبَاهَا مِنْ خَيْبَرَ ،
فَاصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ وَأَوْلَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَلِيمَةً مَا فِيهَا شَحْمٌ وَلَا لَحْمٌ كَانَ سَوِيقًا وَتَمْرًا ،
وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ .
[ زَوَاجُهُ بِمَيْمُونَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنِ بْنِ بَحِيرِ بْنِ هُزَمَ
بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ،
زَوّجَهُ إيّاهَا الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَصْدَقَهَا الْعَبّاسُ عَنْ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ
وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ
؛ وَيُقَالُ إنّهَا الّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّ خِطْبَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
انْتَهَتْ إلَيْهَا وَهِيَ عَلَى بَعِيرِهَا ، فَقَالَتْ الْبَعِيرُ وَمَا
عَلَيْهِ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : {
وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ } وَيُقَالُ إنّ الّتِي
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ
جَحْشٍ ، [ ص 647 ] وَيُقَالُ أُمّ شَرِيكٍ غَزِيّة بِنْتُ جَابِرِ بْنِ وَهْبٍ
مِنْ بَنِي مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَيُقَالُ
بَلْ هِيَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ، فَأَرْجَأَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
.
[ زَوَاجُهُ زَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ ]
وَتَزَوّجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَكَانَتْ
تُسْمَى أُمّ الْمَسَاكِينِ لِرَحْمَتِهَا إيّاهُمْ وَرِقّتِهَا عَلَيْهِمْ زَوّجَهُ
إيّاهَا قَبِيصَةُ بْنُ عَمْرٍو الْهِلَالِيّ وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَ مِئَةِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ
عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ،
وَكَانَتْ قَبْلَ عُبَيْدَةَ عِنْدَ جَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ، وَهُوَ
ابْنُ عَمّهَا .
فَهَؤُلَاءِ اللّاتِي بَنَى بِهِنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إحْدَى عَشَرَةَ فَمَاتَ قَبْلَهُ مِنْهُنّ ثِنْتَانِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ . وَتُوُفّيَ عَنْ تِسْعٍ قَدْ ذَكَرْنَاهُنّ فِي أَوّلِ هَذَا الْحَدِيثِ وَثِنْتَانِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا : أَسَمَاءُ بِنْتُ النّعْمَانِ الْكِنْدِيّةُ تَزَوّجَهَا فَوَجَدَ بِهَا بَيَاضًا ، فَمَتّعَهَا وَرَدّهَا إلَى أَهْلِهَا ، وَعَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيّة وَكَانَتْ حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِكُفْرٍ فَلَمّا قَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنِيعٌ عَائِذٌ اللّهَ فَرَدّهَا إلَى أَهْلِهَا ، وَيُقَالُ إنّ الّتِي اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِنْدِيّةُ بِنْتُ عَمّ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ النّعْمَانِ وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَاهَا ، فَقَالَتْ إنّا قَوْمٌ نُؤْتَى وَلَا نَأْتِي ؛ فَرَدّهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَهْلِهَا
[ تَسْمِيَةُ الْقُرَشِيّاتِ مِنْهُنّ ]
[ ص 648 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِتّ :
خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيَلْدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ
كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَبِي قُحَافَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ
بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ؛ وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ
بْنِ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزِاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛ وَأُمّ
حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ ؛ وَأُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقِظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ؛
وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمَعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ
نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ .
[ تَسْمِيَةُ الْعَرَبِيّاتِ وَغَيْرِهِنّ ]
وَالْعَرَبِيّاتُ وَغَيْرُهُنّ سَبْعٌ زَيْنَبُ بِنْتُ
جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ
غَنْمِ بْنِ دَوْدَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ؛ وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ بْنِ حَزْنِ بْنِ بَحِيرِ بْنِ هُزَمَ بْنِ رُوَيْبَةَ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ
بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ
؛ وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ
؛ وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ الْخُزَاعِيّة ، ثُمّ
الْمُصْطَلِقِيّة ؛ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ النّعْمَانِ الْكِنْدِيّةُ وَعَمْرَةُ
بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيّة .
[غَيْرُ الْعَرَبِيّاتِ ]
وَمِنْ غَيْرِ الْعَرَبِيّاتِ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ
بْنِ أَخْطَبَ ، مِنْ بَنِي النّضِيرِ
.
تَمْرِيضُ
رَسُولِ اللّهِ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ
[ ص 649 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَعْقُوبُ
بْنُ عُتْبَةَ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَتْ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمْشِي
بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِهِ أَحَدُهُمَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ ،
وَرَجُلٌ آخَرُ عَاصِبًا رَأْسَهُ تَخُطّ قَدَمَاهُ حَتّى دَخَلَ بَيْتِي . قَالَ
عُبَيْدُ اللّهِ ، فَحَدّثْت هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْعَبّاسِ ،
فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَنْ الرّجُلُ الْآخَرُ ؟ قَالَ قُلْت : لَا ؟ قَالَ عَلِيّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
[ شِدّةُ الْمَرَضِ وَصَبّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ]
ثُمّ غُمِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَاشْتَدّ بِهِ وَجَعُهُ فَقَالَ هَريقُوا عَلَيّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ
آبَارٍ شَتّى ، حَتّى أَخْرُجَ إلَى النّاسِ فَأَعْهَدُ إلَيْهِمْ . قَالَتْ
فَأَقْعَدْنَاهُ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ ، ثُمّ صَبَبْنَا عَلَيْهِ
الْمَاءَ حَتّى طَفِقَ يَقُولُ حَسْبُكُمْ حَسْبُكُمْ
[ كَلِمَةٌ لِلنّبِيّ وَاخْتِصَاصُهُ أَبَا بَكْرٍ بِالذّكْرِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ الزّهْرِيّ : حَدّثَنِي
أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ
عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمّ كَانَ أَوّلُ مَا تَكَلّمَ
بِهِ أَنّهُ صَلّى عَلَى أَصْحَابِ أُحُدٍ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَأَكْثَرَ
الصّلَاةَ عَلَيْهِمْ ثُمّ قَالَ إنّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللّهِ خَيّرَهُ اللّهُ
بَيْنَ الدّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللّهِ . قَالَ
فَفَهِمَهَا أَبُو بَكْرٍ وَعَرَفَ أَنّ نَفْسَهُ يُرِيدُ فَبَكَى وَقَالَ بَلْ
نَحْنُ نَفْدِيك بِأَنْفُسِنَا وَأَبْنَائِنَا ، فَقَالَ عَلَى رِسْلِك يَا أَبَا
بَكْرٍ ، ثُمّ قَالَ اُنْظُرُوا هَذِهِ الْأَبْوَابَ اللّافِظَةَ فِي الْمَسْجِدِ فَسُدّوهَا
إلّا بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَفْضَلَ فِي
الصّحْبَةِ عِنْدِي يَدًا مِنْهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : إلّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ
. [ ص 650 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
عَنْ بَعْضِ آلِ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلّى : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمئِذٍ فِي كَلَامِهِ هَذَا : فَإِنّي لَوْ
كُنْت مُتّخِذًا مِنْ الْعِبَادِ خَلِيلًا لَاِتّخَذْت أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ، وَلَكِنْ
صُحْبَةٌ وَإِخَاءُ إيمَانٍ حَتّى يَجْمَعَ اللّهُ بَيْنَنَا عِنْدَهُ
[ أَمْرُ الرّسُولِ بِإِنْفَاذِ بَعْثِ أُسَامَةَ ]
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ
الْعُلَمَاءِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَبْطَأَ
النّاسَ فِي بَعْثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَهُوَ فِي وَجَعِهِ فَخَرَجَ
عَاصِبًا رَأْسَهُ حَتّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَدْ كَانَ النّاسُ قَالُوا
فِي إمْرَةِ أُسَامَةَ : أَمّرَ غُلَامًا حَدَثًا عَلَى جِلّةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
. فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمّ قَالَ أَيّهَا
النّاسُ أَنْفِذُوا بَعْثَ أُسَامَةَ ، فَلِعَمْرِي لَئِنْ قُلْتُمْ فِي
إمَارَتِهِ لَقَدْ قُلْتُمْ فِي إمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلِهِ وَإِنّهُ
لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا لَهَا قَالَ ثُمّ نَزَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْكَمَشَ النّاسُ فِي
جَهَازِهِمْ اسْتَعَزّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعُهُ
فَخَرَجَ أُسَامَةُ وَخَرَجَ جَيْشُهُ مَعَهُ حَتّى نَزَلُوا الْجُرْفَ ، مِنْ الْمَدِينَةِ
عَلَى فَرْسَخٍ فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ وَتَتَامّ إلَيْهِ النّاسُ وَثَقُلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ أُسَامَةُ وَالنّاسُ
لِيَنْظُرُوا مَا اللّهُ قَاضٍ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ وَصِيّةُ الرّسُولِ بِالْأَنْصَارِ ]
وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ :
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ صَلّى وَاسْتَغْفَرَ لِأَصْحَابِ أُحُدٍ ،
وَذَكَرَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرَ مَعَ مَقَالَتِهِ يَوْمئِذٍ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ
، اسْتَوْصُوا بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا ، فَإِنّ النّاسَ يَزِيدُونَ وَإِنّ
الْأَنْصَارَ عَلَى هَيْئَتِهَا لَا تَزِيدُ وَإِنّهُمْ كَانُوا عَيْبَتِي الّتِي
أَوَيْت إلَيْهَا ، فَأَحْسِنُوا إلَى مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ
مُسِيئِهِمْ [ ص 651 ] قَالَ عَبْدُ اللّهِ ثُمّ نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ وَتَتَامّ بِهِ وَجَعُهُ حَتّى غُمِرَ .
[ شَأْنُ اللّدُودِ
]
قَالَ عَبْدُ اللّهِ : فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ نِسَاءٌ مِنْ
نِسَائِهِ أُمّ سَلَمَةَ ، وَمَيْمُونَةُ ، وَنِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ
مِنْهُنّ أَسَمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ ، وَعِنْدَهُ الْعَبّاسُ عَمّهُ فَأَجْمَعُوا
أَنْ يَلُدّوهُ وَقَالَ الْعَبّاسُ : لَأَلُدّنّهُ . قَالَ فَلَدّوهُ فَلَمّا
أَفَاقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مَنْ صَنَعَ هَذَا
بِي ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ عَمّك ، قَالَ هَذَا دَوَاءٌ أَتَى بِهِ
نِسَاءٌ جِئْنَ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَأَشَارَ نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
؛ قَالَ وَلِمَ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ عَمّهُ الْعَبّاسُ : خَشِينَا يَا
رَسُولَ اللّهِ أَنْ يَكُونَ بِك ذَاتُ الْجَنْبِ فَقَالَ إنّ ذَلِكَ لَدَاءٌ مَا
كَانَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِيَقْذِفَنِي بِهِ لَا يَبْقَ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ
إلّا لُدّ إلّا عَمّي ، فَلَقَدْ لُدّتْ مَيْمُونَةُ وَإِنّهَا لَصَائِمَةٌ لِقَسَمِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُقُوبَةً لَهُمْ بِمَا صَنَعُوا
بِهِ
[ دُعَاءُ الرّسُولِ لِأُسَامَةَ بِالْإِشَارَةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أُسَامَةَ
بْنِ زَيْد ٍ قَالَ لَمّا ثَقُلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
هَبَطْتُ وَهَبَطَ النّاسُ مَعِي إلَى الْمَدِينَةِ ، فَدَخَلْت عَلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أُصْمِتَ فَلَا يَتَكَلّمُ فَجَعَلَ
يَرْفَعُ يَدَهُ إلَى السّمَاءِ ثُمّ يَضَعُهَا عَلَيّ فَأَعْرِفُ أَنّهُ يَدْعُو
لِي قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : حَدّثَنِي
عُبَيْد ُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ كَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَثِيرًا مَا أَسْمَعُهُ يَقُولُ
إنّ اللّهَ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيّا حَتّى يُخَيّرْهُ . قَالَتْ فَلَمّا حُضِرَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ آخِرُ كَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا
وَهُوَ يَقُولُ بَلْ الرّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ الْجَنّةِ ، قَالَتْ فَقُلْت : [ ص
652 ] كَانَ يَقُولُ لَنَا : إنّ نَبِيّا لَمْ يُقْبَضْ حَتّى يُخَيّرَ
[ صَلَاةُ أَبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ ]
قَالَ الزّهْرِيّ : وَحَدّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمّا اُسْتُعِزّ بِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ . قَالَتْ قُلْت :
يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ أَبَا بَكْر ٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ ضَعِيفُ الصّوْتِ كَثِيرُ
الْبُكَاءِ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ . قَالَ مُرُوهُ فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ . قَالَتْ
فَعُدْت بِمِثْلِ قَوْلِي ، فَقَالَ إنّكُنّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ ، فَمُرُوهُ
فَلْيُصَلّ بِالنّاسِ قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا أَنّي كُنْت
أُحِبّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَرَفْت أَنّ النّاسَ لَا
يُحِبّونَ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا ، وَأَنّ النّاسَ سَيَتَشَاءَمُونَ
بِهِ فِي كُلّ حَدَثٍ كَانَ فَكُنْت أُحِبّ أَنْ يُصْرَفَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ
، قَالَ لَمّا اُسْتُعِزّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَنَا عِنْدَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ دَعَاهُ بَلَالٌ إلَى
الصّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا مَنْ يُصَلّي بِالنّاسِ . قَالَ فَخَرَجْت فَإِذَا
عُمَرُ فِي النّاسِ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا ؛ فَقُلْت : قُمْ يَا عُمَرُ فَصَلّ
بِالنّاسِ قَالَ فَقَامَ فَلَمّا كَبّرَ سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَوْتَهُ وَكَانَ عُمَرُ رَجُلًا مِجْهَرًا ، قَالَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ ؟ يَأْبَى
اللّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ يَأْبَى اللّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ . قَالَ
فَبُعِثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ ، فَجَاءَ بَعْدَ أَنْ صَلّى عُمَرُ تِلْكَ الصّلَاةَ
فَصَلّى بِالنّاسِ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَمَعَةَ قَالَ لِي عُمَرُ :
وَيْحَك ، مَاذَا صَنَعْت بِي يَا بْنَ زَمَعَةَ وَاَللّهِ مَا ظَنَنْت حِينَ أَمَرْتنِي
إلّا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَك بِذَلِكَ
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَلّيْت بِالنّاسِ . قَالَ قُلْتُ وَاَللّهِ مَا أَمَرَنِي
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ وَلَكِنّي حِينَ لَمْ
أَرَ أَبَا بَكْر ٍ رَأَيْتُك أَحَقّ مَنْ حَضَرَ بِالصّلَاةِ بِالنّاسِ
[ الْيَوْمُ الّذِي قَبَضَ اللّهُ فِيهِ نَبِيّهُ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَالَ الزّهْرِيّ : حَدّثَنِي
أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : أَنّهُ لَمّا كَانَ يَوْمُ [ ص 653 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَرَجَ إلَى النّاسِ وَهُمْ يُصَلّونَ الصّبْحَ فَرَفَعَ السّتْرَ وَفَتَحَ
الْبَابَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ عَلَى
بَابِ عَائِشَةَ فَكَادَ الْمُسْلِمُونَ يُفْتَتَنُونَ فِي صَلَاتِهِمْ بِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ رَأَوْهُ فَرَحًا بِهِ وَتَفَرّجُوا
، فَأَشَارَ إلَيْهِمْ أَنْ اُثْبُتُوا عَلَى صَلَاتِكُمْ قَالَ فَتَبَسّمَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُرُورًا لَمّا رَأَى مِنْ
هَيْئَتِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَحَسَنَ هَيْئَةً مِنْهُ تِلْكَ السّاعَةَ قَالَ ثُمّ رَجَعَ وَانْصَرَفَ
النّاسُ وَهُمْ يَرَوْنَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
أَفْرَقَ مِنْ وَجَعِهِ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إلَى أَهْلِهِ بِالسّنْحِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ
الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ حِينَ سَمِعَ تَكْبِيرَ عُمَرَ فِي الصّلَاةِ أَيْنَ أَبُو بَكْر ٍ ؟
يَأْبَى اللّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ . فَلَوْلَا مَقَالَةٌ قَالَهَا عُمَرُ
عِنْدَ وَفَاتِهِ لَمْ يَشُكّ الْمُسْلِمُونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ ، وَلَكِنّهُ قَالَ عِنْدَ وَفَاتِهِ إنْ
أَسْتَخْلَفَ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي ، وَإِنْ أَتَرَكَهُمْ
فَقَدْ تَرَكَهُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي . فَعَرَفَ النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَخْلِفْ أَحَدًا ، وَكَانَ عُمَرُ
غَيْرَ مَتّهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ لَمّا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَرَجَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَاصِبًا رَأْسَهُ إلَى الصّبْحِ
وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلّي بِالنّاسِ فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَفَرّجَ النّاسُ فَعَرَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنّ النّاسَ لَمْ
يَصْنَعُوا ذَلِكَ إلّا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَكَصَ
عَنْ مُصَلّاهُ فَدَفَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
ظَهْرِهِ وَقَالَ صَلّ بِالنّاسِ ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى جَنْبِهِ فَصَلّى قَاعِدًا عَنْ يَمِينِ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمّا
فَرَغَ مِنْ الصّلَاةِ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَكَلّمَهُمْ رَافِعًا صَوْتَهُ حَتّى
خَرَجَ صَوْتُهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ سُعّرَتْ النّارُ
، وَأَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللّيْلِ [ ص 654 ] تَمَسّكُونِ عَلَيّ بِشَيْءِ إنّي
لَمْ أُحِلّ إلّا مَا أَحَلّ الْقُرْآنُ وَلَمْ أُحَرّمْ إلّا مَا حَرّمَ
الْقُرْآنُ قَالَ فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ كَلَامِهِ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّي أَرَاك قَدْ
أَصْبَحْتَ بِنِعْمَةِ مِنْ اللّهِ وَفَضْلٍ كَمَا نُحِبّ ، وَالْيَوْمُ يَوْمُ
بِنْتِ خَارِجَةَ أَفَآتِيهَا ؟ قَالَ نَعَمْ ثُمّ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إلَى أَهْلِهِ بِالسّنْحِ
[ شَأْنُ الْعَبّاسِ وَعَلِيّ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : وَحَدّثَنِي
عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ،
قَالَ خَرَجَ يَوْمئِذٍ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ
عَلَى النّاسِ مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ
لَهُ النّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللّهِ بَارِئًا ، قَالَ فَأَخَذَ
الْعَبّاسُ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ يَا عَلِيّ ، أَنْتَ وَاَللّهِ عَبْدُ الْعَصَا
بَعْدَ ثَلَاثٍ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ عَرَفْت الْمَوْتَ فِي وَجْهِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا كُنْت أَعْرِفُهُ فِي وُجُوهِ بَنِي
عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِينَا عَرَفْنَاهُ وَإِنْ كَانَ فِي
غَيْرِنَا ، أَمَرْنَاهُ فَأَوْصَى بِنَا النّاسَ . قَالَ فَقَالَ لَهُ عَلِيّ : إنّي
وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ وَاَللّهِ لَئِنْ مُنِعْنَاهُ لَا يُؤْتِينَاهُ أَحَدٌ
بَعْدَهُ . فَتُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
اشْتَدّ الضّحَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
[ سِوَاكُ الرّسُولِ قُبَيْلَ الْوَفَاةِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ
عُتْبَةَ ، عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَة َ قَالَ قَالَتْ رَجَعَ
إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حِينَ
دَخَلَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاضْطَجَعَ فِي حِجْرِي ، فَدَخَلَ عَلَيّ رَجُلٌ مِنْ آلِ
أَبِي بَكْرٍ ، وَفِي يَدِهِ سِوَاكٌ أَخَضَرَ . قَالَتْ فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِ فِي يَدِهِ نَظَرًا عَرَفْت أَنّهُ
يُرِيدُهُ قَالَتْ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُحِبّ أَنْ أُعْطِيَك هَذَا
السّوَاكَ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَتْ فَأَخَذْته فَمَضَغْته لَهُ حَتّى لَيّنْته ،
ثُمّ أَعْطَيْته إيّاهُ قَالَتْ فَاسْتَنّ بِهِ كَأَشَدّ مَا رَأَيْته يَسْتَنّ
بِسِوَاكٍ قَطّ ، ثُمّ وَضَعَهُ وَوَجَدْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ [ ص 655 ] بَلْ الرّفِيقُ الْأَعْلَى مِنْ الْجَنّةِ ، قَالَتْ فَقُلْت : خُيّرْت
فَاخْتَرْت وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ قَالَتْ وَقُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ سَمِعْت عَائِشَة
َ تَقُولُ مَاتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ سَحْرِي
وَنَحْرِي وَفِي دَوْلَتِي ، لَمْ أَظْلِمْ فِيهِ أَحَدًا ، فَمِنْ سَفَهِي
وَحَدَاثَةِ سِنّي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُبِضَ
وَهُوَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ وَضَعْت رَأْسَهُ عَلَى وِسَادَةٍ وَقُمْت ألْتَدِمُ مَعَ
النّسَاءِ وَأَضْرِبُ وَجْهِي
[ مَقَالَةُ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ ، وَحَدّثَنِي
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَامَ عُمْرُ بْنُ الْخَطّابِ ، فَقَالَ إنّ
رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تُوُفّيَ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا مَاتَ وَلَكِنّهُ ذَهَبَ إلَى رَبّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ
عِمْرَانَ فَقَدْ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ
بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مَاتَ وَوَاللّهِ لَيَرْجِعَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَجَعَ مُوسَى ، فَلَيَقْطَعَنّ أَيْدِي رِجَالٍ
وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَات
قَالَ وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْر ٍ حَتّى نَزَلَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ ، وَعُمَرُ يُكَلّمُ النّاسَ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى شَيْءٍ حَتّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسَجّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ بُرْدٌ حِبَرَةٌ فَأَقْبَلَ حَتّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبّلَهُ ثُمّ قَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، أَمّا الْمَوْتَةُ الّتِي كَتَبَ اللّهُ عَلَيْك فَقَدْ ذُقْتهَا ، ثُمّ لَنْ تُصِيبَك بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا . قَالَ ثُمّ رَدّ الْبُرْدَ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلّمُ النّاسَ فَقَالَ عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرُ أَنْصِتْ فَأَبَى إلّا أَنْ يَتَكَلّمَ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لَا يَنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَلَمّا سَمِعَ النّاسُ كَلَامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمّدًا فَإِنّ مُحَمّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ حَيّ لَا يَمُوتُ . قَالَ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ } . قَالَ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّ النّاسُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حَتّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمئِذٍ قَالَ وَأَخَذَهَا النّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَإِنّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ قَالَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : قَالَ عُمَرُ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا ، فَعَقِرْت حَتّى وَقَعْت إلَى الْأَرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ وَعَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ مَاتَ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق